Hot Posts

6/recent/ticker-posts

الكاهنة ديهيا: وهج المقاومة في سجل التاريخ الأمازيغي

 

الكاهنة ديهيا: وهج المقاومة في سجل التاريخ الأمازيغي

تُعد الكاهنة ديهيا، المعروفة أيضاً باسم ديهيا بنت تابنة، شخصية تاريخية أسطورية محفورة بعمق في ذاكرة شمال إفريقيا. لم تكن مجرد ملكة حاربت الغزاة، بل أصبحت رمزاً خالداً للمقاومة والصمود، تتجاوز قصتها حدود الزمان والمكان لتلهم الأجيال المتعاقبة. اسمها الحقيقي "ديهيا" يحمل معنى "الغزالة الجميلة" في اللغة الأمازيغية، وهو اسم يعكس ربما جمالها وقوتها. أما لقب "الكاهنة"، الذي أطلقه عليها خصومها العرب، فيعني "النبية" أو "الساحرة" ، وهذا اللقب بحد ذاته يشير إلى مدى تأثيرها والرهبة التي أثارتها في نفوس أعدائها. فقد نُسبت إليها قدرات خارقة على التنبؤ بالغيب أو دهاء خارق في القيادة، مما عزز مكانتها الأسطورية.  


تولت ديهيا قيادة الأمازيغ في فترة حرجة من تاريخ شمال إفريقيا، لتصبح قائدة عسكرية وملكة حكمت المنطقة لمدة خمس وثلاثين عاماً. امتدت مملكتها الشاسعة لتشمل أجزاء واسعة مما يُعرف اليوم بالجزائر وتونس والمغرب وليبيا. إن صعود امرأة إلى هذا المستوى من السلطة العسكرية والسياسية في حقبة تاريخية كانت تهيمن عليها البنى الذكورية، يشير إلى سياق ثقافي فريد في شمال إفريقيا ما قبل الإسلام، سمح بتمكين المرأة ووصولها إلى مراكز قيادية عليا. فبينما كانت المصادر العربية تصفها بـ "الساحرة" أو تُرجع انتصاراتها إلى قوى غير طبيعية ، وهو ما قد يعكس صعوبة استيعاب مجتمع ذكوري لهزيمة على يد امرأة، فإن الثقافة الأمازيغية، كما يتضح من لغتها ورواياتها التاريخية، كانت تتضمن جوانب أمومية (أَميس) حيث كان للمرأة أدوار عامة مهمة قبل ظهور الديانات الإبراهيمية. هذا التباين في التصوير يبرز صراعاً ثقافياً أعمق؛ فصعود ديهيا كان أكثر انسجاماً مع مجتمعها الأمازيغي مما كان مقبولاً أو مفهوماً للغزاة الذكوريين، مما جعل ظهورها تحدياً للمفاهيم السائدة عن القيادة والقوة في ذلك العصر. تجاوزت ديهيا كونها مجرد قائدة عسكرية لتصبح أيقونة للنضال من أجل الأرض والهوية. قصتها، المليئة بالبطولة والتضحية، لا تزال تلهم الأمازيغ والمرأة الحرة في العصر الحديث ، وقد أجمع الرواة، حتى من خصومها، على شدة بأسها وقوتها الاستثنائية.  

الفصل الأول: جذور المقاومة: نشأة الكاهنة وسياقها التاريخي

ولدت ديهيا بنت تابنة في عام 585 ميلادية ، ونشأت وترعرعت في جبال الأوراس، التي تقع اليوم في الجزائر. كانت عاصمة مملكتها مدينة ماسكولا، التي تُعرف حالياً بخنشلة. تنتمي ديهيا إلى قبيلة جراوة، وهي إحدى القبائل البترية الكبيرة ضمن اتحاد قبائل زناتة الأمازيغية، التي اشتهرت بقوتها وسيطرتها على جبال الأوراس. على الرغم من ندرة النصوص التاريخية المفصلة عن طفولتها، إلا أن التحليلات تشير إلى أنها تلقت تدريباً خاصاً بأبناء الزعماء والقادة، يشمل التكوين العسكري والثقافي، مما أعدها لدورها القيادي المستقبلي.  

قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، كانت شمال إفريقيا منطقة ذات تنوع قبلي كبير، حيث عاشت قبائل أمازيغية رئيسية مثل صنهاجة وزناتة ومصمودة. لم تكن هناك حدود سياسية واضحة المعالم، وكانت المنطقة تشهد فترات قليلة من الاستقرار، مما أسهم في تشكيل طبيعة محاربة لهذه القبائل. تاريخياً، تعاقبت على شمال إفريقيا حضارات وقوى استعمارية مختلفة، بما في ذلك الفينيقيون، القرطاجيون، الرومان، الوندال، والبيزنطيون. كانت المناطق الساحلية تخضع لسيطرة الإمبراطورية البيزنطية، بينما احتفظت القبائل الأمازيغية في المناطق الداخلية باستقلاليتها النسبية. كانت هناك طبقات من السكان لم تخضع للسلطة الرومانية وكانت تترقب الفرصة للانقضاض على المحتلين. عانى البربر من القمع تحت الحكم البيزنطي، مما أوجد لديهم حساسية عميقة وخوفاً من أي قوى جديدة تحاول بسط سيطرتها على أراضيهم. على الرغم من انقساماتهم القبلية، كان البربر يتشاركون لغة وتراثاً ثقافياً موحداً، وكانوا يعملون في الزراعة والتجارة والحرف، مما شكل قوة موحدة لهم.  

إن هذا السياق التاريخي الطويل من الاحتلال الأجنبي والمقاومة المستمرة يمثل خلفية أساسية لفهم مقاومة ديهيا الشرسة. لم تكن أفعالها مجرد رد فعل شخصي، بل كانت استمراراً لكفاح جماعي متجذر من أجل الاستقلال الذاتي. فديهيا لم تكن ظاهرة منعزلة، بل كانت تجسيداً لروح المقاومة المتأصلة في الثقافة الأمازيغية التي تعود جذورها إلى قرون من الدفاع عن الأرض والهوية ضد الغزاة. هذا يفسر لماذا لم يكن الفتح الإسلامي للمغرب عملية سريعة أو سلمية كما حدث في بعض المناطق الأخرى ، بل واجه مقاومة عنيفة وطويلة، وكانت ديهيا مثالاً بارزاً على هذه المقاومة المتجذرة.  

بعد مقتل الملك كسيلة (أكسيل)، قائد قبيلة أوربة الأمازيغية، على يد الجيوش الإسلامية ، أجمعت القبائل الأمازيغية على تولية ديهيا أمرها. كان هذا التولي للسلطة يتم وفقاً للتقاليد الأمازيغية القديمة، التي تقتضي تصويت مجلس القبائل لاختيار حاكم جديد عند وفاة الحاكم. توجت ديهيا ملكة عام 680 ميلادي ، لتخلف كسيلة وتصبح وريثة لعرش المقاومة، وتتولى قيادة الأمازيغ وشمال إفريقيا في مواجهة التحديات الجديدة.  

الفصل الثاني: قيادة استثنائية: صفات الكاهنة ودورها العسكري

تميزت الكاهنة ديهيا بصفات قيادية استثنائية جعلتها شخصية محورية في تاريخ شمال إفريقيا. كانت امرأة قوية الشكيمة، تتحلى بالحكمة، الفطنة، والدهاء في تسيير دواليب الحكم. اشتهرت بقوتها العسكرية وذكائها الفذ، وقدرتها على التخطيط الحربي ببراعة


منقطعة النظير. كانت ديهيا جذابة وقوية ومتمردة، وامتلكت كاريزما عالية مكنتها من توحيد القبائل الأمازيغية المتفرقة تحت رايتها. هذا التأثير الكبير جعل قادة القبائل الأمازيغية يطيعونها ويحسب لها العدو ألف حساب. وقد عُرفت بكونها "فارسة الأمازيغ التي لم يأتِ بمثلها زمان"، حيث كانت تركب حصانها وتجوب المناطق من الأوراس إلى طرابلس، حاملة السلاح للدفاع عن أرض أجدادها.  

تجلت قدرتها الفائقة على القيادة في تمكنها من توحيد أهم القبائل الأمازيغية، مثل بني يفرن وقبائل زناتة وسائر البتر، حول رايتها لمواجهة الغزو الإسلامي. كان هذا الإنجاز عظيماً بحد ذاته، خاصة بالنظر إلى الطبيعة القبلية والانقسامات التي كانت سائدة بين الأمازيغ في تلك الفترة. قدرتها على جمع هذه القبائل المتفرقة تحت قيادة واحدة تعكس حنكتها السياسية والعسكرية وقدرتها على إلهام الثقة والولاء.  

بالإضافة إلى براعتها العسكرية، ارتبط لقب "الكاهنة" بقدرتها المزعومة على التنبؤ بالغيب ومعرفة أحوال قومها وعواقب أمورهم، وهو ما يُعتقد أنه ساهم في توليها العرش. حتى أن بعض الروايات الأسطورية تذكر أنها كانت تتواصل مع الطيور التي تحذرها من الجيوش المتقدمة. على الرغم من أن المؤرخين العرب ربطوا هذا اللقب بالسحر والشعوذة، في محاولة منهم لتقليل من شأن انتصاراتها ، إلا أن هذا اللقب يعكس أيضاً هيبتها وقدرتها على استشراف الأحداث، سواء كان ذلك بحدس فطري أو بذكاء استخباراتي متقدم. إن إسناد "الكهانة" أو السحر إلى ديهيا من قبل المصادر العربية، بدلاً من أن يقلل من شأنها، يسلط الضوء عن غير قصد على التأثير العميق لعبقريتها القيادية والعسكرية على خصومها. فقد واجه هؤلاء صعوبة في تبرير هزائمهم المتكررة على يد امرأة بوسائل تقليدية. هذا التصوير المزدوج لشخصيتها — كقائدة قوية وماكرة من جهة، و"ساحرة" من جهة أخرى — يكشف عن التحيزات الثقافية للمؤرخين أكثر مما يكشف عن ممارسات ديهيا الفعلية. يشير ذلك إلى أن براعتها الاستراتيجية كانت غير متوقعة وفعالة لدرجة أنها تحدت التفسيرات التقليدية لأعدائها.  

الفصل الثالث: صولات وجولات: معارك الكاهنة وإنجازاتها

شهدت فترة حكم الكاهنة ديهيا صولات وجولات عسكرية حاسمة، بدأت بمواجهاتها ضد القوى الرومانية والبيزنطية. قادت ديهيا حملات عديدة ضد الرومان الذين كانوا يحتلون جزءاً كبيراً من الأراضي البربرية منذ أواخر القرن السادس الميلادي. بفضل قيادتها الحكيمة، استطاعت استعادة أراضي الأمازيغ، مكبدة الروم البيزنطيين خسائر فادحة، ووسعت مملكتها لتشمل مناطق واسعة تمتد اليوم عبر الجزائر والمغرب وتونس وليبيا.  

كانت المواجهة الأبرز لديهيا مع الجيوش الإسلامية بقيادة حسان بن النعمان. فبعد استشهاد القائد عقبة بن نافع عام 682م ، أرسل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان القائد حسان بن النعمان لاستئناف الفتوحات في شمال إفريقيا. في عام 693م، أو 698م حسب بعض المصادر، واجهت ديهيا جيش حسان بن النعمان في معركة حاسمة تُعرف بمعركة الجمال أو بجاية. في هذه المعركة، أظهرت ديهيا


براعة تكتيكية فريدة. فقبل الفجر، نشرت آلاف الجنود في الطليعة لبدء القتال، وخلفهم، أخفت ألفين من الرماة بين أرجل مئات الجمال المصطفة في صف مزدوج على شكل مربع. في الجزء الخلفي من هذا "الجدار" المتحرك، وضعت جيشها الأكبر من آلاف الفرسان. عندما تقدم حسان وهاجم الطليعة الأمازيغية، تراجعت الطليعة بشكل منظم لتفتح فجوة في صفوف الجمال، فاندفع العرب في مطاردتهم. حينها، اعترضتهم سحابة من السهام أطلقها الرماة الأمازيغ، ثم حاصرت الفرسان الأمازيغ القوات العربية وذبحوها. أسفرت هذه المعركة عن هزيمة ساحقة لجيش حسان بن النعمان. طارد حسان وما تبقى من جيشه خارج حدود تونس وطرابلس الحالية إلى منطقة برقة الليبية، حيث استقر منتظراً المدد من الخليفة. وقد أسر عدد كبير من المسلمين، منهم خالد بن يزيد القيسي، الذي اتخذته الكاهنة ولداً لها.  

بعد انتصارها الأول، وإدراكاً منها أن حسان سيعود بجيش أكبر، لجأت ديهيا إلى سياسة "الأرض المحروقة". أمرت بقطع الأشجار وهدم الحصون وحرق المحاصيل من طرابلس إلى طنجة، بهدف تجريد الجيوش الغازية من أي موارد يمكن أن تستفيد منها. هذه السياسة، على الرغم من منطقها العسكري في حرمان العدو من الإمدادات، أثارت حفيظة سكان شمال إفريقيا، الذين بدأوا يعتقدون أن الملكة قد "جُنَّت"، مما أدى إلى فقدان دعم بعض قبائلها وهجرة الكثيرين إلى الأندلس، وتشرذم الأمازيغ. هذا التحول من براعة ديهيا التكتيكية في معركة الجمال إلى سياسة "الأرض المحروقة" المثيرة للجدل، ثم هزيمتها النهائية، يسلط الضوء على خطأ استراتيجي حاسم أو إجراء يائس أدى في النهاية إلى تقويض دعمها الشعبي وقوتها العسكرية. فبينما كان نجاحها الأولي يعتمد على الدهاء العسكري ووحدة القبائل، فإن سياسة "الأرض المحروقة" أدت إلى تفكيك النسيج المجتمعي الذي كانت تدافع عنه. ورغم أن هذه السياسة كانت تبدو منطقية عسكرياً لتجويع الجيش الغازي، إلا أنها فشلت في تقدير الأثر الفوري والمدمر على سكانها، مما أدى إلى انشقاق داخلي وإضعاف قواتها. هذا يشير إلى وجود توتر بين الاستراتيجية العسكرية والحفاظ على ولاء الشعب، حيث أدت هذه الخطوة الجذرية، رغم هدفها الدفاعي طويل المدى، إلى تسريع سقوطها بتقويض الأساس الذي قامت عليه سلطتها – دعم شعبها.  

بعد خمس سنوات، عاد حسان بن النعمان بجيش أكبر بكثير. وقعت المعركة الحاسمة بالقرب من مدينة طبرقة، على الحدود الجزائرية التونسية حالياً، في منطقة تُعتبر نقطة اختناق بين البحر الأبيض المتوسط وجبال الأوراس. تُعرف هذه المعركة أيضاً باسم "بئر الكاهنة" ، حيث يُقال إن القتال توقف بعد مقتلها وألقيت جثتها في بئر. تختلف المصادر حول تاريخ وفاتها، بين 701م، 702م، 703م، أو 712م ، لكنها جميعاً تتفق على أنها قُتلت في المعركة. يُعتقد أنها قُتلت غدراً، وبعض الروايات تشير إلى خيانة خالد بن يزيد القيسي الذي تبنته. قُطِع رأسها وأُرسل إلى المشرق كرمز للانتصار. توفيت ديهيا عن عمر يناهز 127 أو 128 عاماً. بعد وفاتها، دخل البربر في الإسلام أفواجاً، وشارك أبناؤها في فتح شمال إفريقيا والأندلس تحت قيادة حسان بن النعمان.  

الفصل الرابع: إرث خالد: الكاهنة في الذاكرة الثقافية

تُعد الكاهنة ديهيا رمزاً كبيراً ومؤثراً للمرأة في المجتمع الأمازيغي، سواء في الماضي أو الحاضر. قصتها ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي قصة ملهمة ومؤثرة جداً، ترمز إلى الحب والحنان، وتُظهر أن المرأة الأمازيغية لم تكن دائماً في الصورة النمطية التي يحاول البعض تصويرها اليوم. تُجسد ديهيا صورة المرأة الحرة التي تقف للدفاع عن أرضها وقيم جماعتها وتقاليدها، ورفضت أن تكون تابعة لأحد، معتبرة حريتها تاجاً فوق رأسها. يمتد تأثيرها إلى الثقافة الأمازيغية المعاصرة، حيث لا تزال صورتها مؤثرة خاصة في الجمعيات الأمازيغية وحتى لدى المسؤولين السياسيين، مما يؤكد مكانتها كرمز وطني.  

يتم تخليد ذكرى الكاهنة ديهيا في التراث الشعبي والأعمال الفنية والمبادرات الرسمية بطرق متعددة، مما يعكس الأهمية المتزايدة لشخصيتها في الوعي الثقافي المعاصر. هناك دعوات متزايدة لإعادة الاعتبار لشخصية ديهيا كرمز للمقاومة الوطنية، وإدخال قصتها في المقررات الدراسية لتعريف الأجيال الجديدة برموز مثلها، وتصحيح الصور النمطية السلبية التي قد تكون ترسخت في الماضي.  

على صعيد الآثار والتماثيل، قامت جمعية أوراس الكاهنة في عام 2003 بتنصيب تمثال بطول 1.80 سنتيمتر لبطلتهم القومية وسط بلدية بغاي بالجزائر. وقبل ذلك، في عام 2001، عُرض تمثال للكاهنة في متنزه بيرسي بباريس، يمثل الجزائر ضمن معرض "أطفال العالم". وفي المغرب، زُينت شوارع آيت ورير في مارس 2021 بجدارية ضخمة للملكة الأمازيغية ديهيا. هذه التماثيل والجداريات تعكس اعتراف الدول بشخصيتها كمقاومة ووطنية تنتمي إلى الأرض الجزائرية، وتُظهر تحولاً في الخطاب الرسمي تجاه رموز المقاومة التاريخية.  

في مجال الأعمال الفنية والأدبية، تُعتبر قصة ديهيا غنية جداً من الناحية الدرامية، ويمكن أن تُصنع عنها أفلام تاريخية جميلة لشمال إفريقيا، على الرغم من عدم وجود فيلم كبير عنها حتى الآن. وقد استلهمت شخصيتها في المسرحيات، مثل مسرحية "تنهنان" ، وتُذكر في الأشعار والأغاني الأمازيغية المعاصرة التي تحتفي ببطولتها وشجاعتها. كما دخلت قصتها في موسوعات تاريخية وكُتبت عنها أعمال كثيرة، مما يضمن استمراريتها في الذاكرة الجمعية.  

إن الإحياء الحديث والاعتراف الرسمي بإرث ديهيا، لا سيما من خلال التماثيل والفنون العامة في الجزائر والمغرب، يشير إلى جهد واعٍ لاستعادة وإعادة تفسير الهوية الوطنية. هذا التحول يتجاوز الروايات التاريخية التي ربما همشتها أو شيطنتها في السابق. فقصة ديهيا كانت تاريخياً مهمشة أو مصورة بشكل سلبي من قبل بعض الروايات السائدة. لكن الحركات الأمازيغية الحديثة، وحتى المبادرات على مستوى الدولة في الجزائر والمغرب، تعمل بنشاط على الترويج لها كرمز وطني وثقافي من خلال التماثيل والجداريات والدعوات لإدراجها في المناهج التعليمية. هذا التقييم المعاصر لشخصية ديهيا ليس مجرد ممارسة أكاديمية، بل هو عمل ثقافي وسياسي متعمد. إنه يعكس تحولاً مجتمعياً نحو الاعتراف بالتراث ما قبل الإسلامي والأصلي والاحتفاء به. من خلال رفع مكانة ديهيا، تؤكد هذه المجتمعات تعريفاً أوسع وأكثر شمولاً لهويتها الوطنية التي تعترف بالمقاومة التاريخية والقيادة النسائية، وتتحدى الروايات القديمة، التي ربما كانت أكثر انفرادية، والتي ربما قللت من هذه الجوانب. وهذا يدل على عملية ديناميكية للذاكرة التاريخية، حيث يتم إعادة تأطير الشخصيات الماضية لخدمة تشكيل الهوية والفخر الثقافي في الوقت الحاضر.  

الفصل الخامس: جدل وتفسيرات: الكاهنة في الميزان التاريخي

لطالما كانت شخصية الكاهنة ديهيا محط جدل وتفسيرات متباينة بين المؤرخين، سواء العرب أو الأمازيغ. اختلف المؤرخون حول شخصيتها، فمنهم من وصفها بالحاكمة الجسورة والشجاعة، بينما ذهب آخرون إلى اتهامها بالسحر والشعوذة. يرى بعض الباحثين أن المؤرخين العرب ربما حاولوا تبخيس انتصاراتها عليها باتهامها بالدجل والسحر، وذلك لأن قبول الهزيمة على يد امرأة كان أمراً صعباً على المجتمع الذكوري في تلك الحقبة. ومع ذلك، فإن الإجماع بين الرواة، حتى من خصومها، يؤكد أنها كانت من أشد النساء بأساً وقوة عبر العصور.  

يُعد الجدل حول ديانتها أحد أبرز النقاط الخلافية. تذكر بعض الروايات أنها كانت وثنية تعبد صنماً وتنقله معها في المعارك، بينما يرى آخرون أنها كانت تدين بالعقيدة اليهودية. بعض المصادر اليهودية تشير إلى أنها كانت من قبيلة ذات أصول إسرائيلية، وأن اسمها نفسه يحمل دلالات يهودية. من جهة أخرى، هناك من يرى أن ربطها باليهودية أو الوثنية قد يكون محاولة لتشويه صورتها أو جعلها على ديانة تعادي الإسلام بشدة، وذلك في سياق الصراع الديني والسياسي. كما أن بعض المصادر تشير إلى احتمال كونها مسيحية. تؤكد بعض الدراسات الأكاديمية أن المعلومات حول ديانتها قليلة جداً وغير حاسمة، وأن ما قُدم من قبل المؤرخين قد يكون مجرد صفات لشخصيتها أو محاولة لربطها بديانة معينة لأغراض سردية أو سياسية.  

إن الروايات المتضاربة حول انتماء ديهيا الديني (وثنية، يهودية، مسيحية) ولقب "الساحرة" لا تتعلق بقدر ما تتعلق بمعتقداتها الفعلية، بقدر ما هي نتاج لجهود المؤرخين اللاحقين، وخاصة المؤرخين العرب، لتصنيف مقاومتها وتجريدها من الشرعية ضمن إطار ديني وسياسي جديد. فبإسناد هوية دينية "غير إسلامية" أو "معادية للإسلام" لها (مثل الساحرة أو اليهودية)، تمكن المؤرخون العرب من تبرير الفتح والتقليل من شرعية مقاومتها. وهذا يوضح كيف تتشكل الروايات التاريخية غالباً وفقاً لوجهات نظر وأجندات المنتصرين أو الروايات الثقافية السائدة، بدلاً من أن تكون موضوعية بحتة. إن الغموض الذي يكتنف معتقداتها الحقيقية يؤكد التحديات التي تواجه إعادة بناء تاريخ المجموعات المهمشة عندما تكون المصادر الأولية محدودة وغالباً ما تكون متحيزة، مما يفرض اتباع نهج نقدي لفهم إرثها.

لقد صُورت ديهيا في بعض الروايات الإسلامية المبكرة على أنها ساحرة رفضت الإسلام وحاربته، مما خلق صورة "قبيحة" لها في المدارس المغربية والجزائرية والتونسية والليبية لفترة طويلة. هذا التصوير السلبي كان يهدف في جزء منه إلى تبرير الهزائم العسكرية التي مُني بها العرب أمام جيش تقوده امرأة، حيث كان من غير المقبول نفسياً أن يُهزم الجيش العربي من قبل امرأة دون وجود تفسير "خارق" أو "غير شرعي" لقوتها. ومع ذلك، يُعاد لها الاعتبار اليوم كشخصية مقاومة دافعت عن أرضها وقيم جماعتها، ولم تحارب أي دين بحد ذاته، بل قاومت الغزاة الذين جاؤوا للاستيلاء على خيرات بلادها. حتى ابن خلدون، رغم وصفه لها بـ "الكاهنة" بسبب معرفتها بغيب الأمور، فقد أشاد بقوتها وشجاعتها وبأسها في الحروب، واصفاً إياها بـ "فارسة الأمازيغ التي لم يأتِ بمثلها زمان".  

لتقديم رؤية متوازنة لشخصية الكاهنة ديهيا، من الضروري التعامل مع الروايات التاريخية بحذر ونقد، مع الأخذ في الاعتبار سياق كتابتها ودوافع المؤرخين. تُشير المصادر الموثوقة إلى أنها كانت قائدة عسكرية بارعة ومحاربة شرسة، بغض النظر عن ديانتها أو التفسيرات الخارقة لقوتها. تبقى ديهيا رمزاً للمقاومة الأمازيغية ضد الغزو الأجنبي، وشخصية معقدة تعكس تفاعلات ثقافية ودينية وسياسية معقدة في شمال إفريقيا في تلك الحقبة.  

الخاتمة الملهمة: الكاهنة رمز القوة والهوية

تظل الكاهنة ديهيا شخصية محورية في تاريخ شمال إفريقيا، تجسد روح المقاومة والصمود في وجه الغزاة. كانت ملكة وقائدة عسكرية استثنائية، تمكنت من توحيد القبائل الأمازيغية وتحقيق انتصارات باهرة ضد قوى عظمى في عصرها. تُعد رمزاً للقوة النسائية والشجاعة، وتحدياً للمفاهيم التقليدية للقيادة في زمنها، حيث أثبتت أن المرأة يمكن أن تكون قائدة عسكرية وسياسية لا تُضاهى.


تتجاوز قصة ديهيا مجرد السرد التاريخي لتصبح جزءاً حياً من الهوية الأمازيغية المعاصرة. يستلهم الأمازيغ اليوم من صمودها وشجاعتها في سعيهم للحفاظ على ثقافتهم وتراثهم ولغتهم، وتُعد قصتها دليلاً على تاريخ طويل من المقاومة والاعتزاز بالذات. إن إعادة الاعتبار لها في الذاكرة الجمعية، من خلال الأعمال الفنية والتعليمية والتماثيل، يعكس وعياً متزايداً بأهمية الجذور التاريخية في بناء الهوية الوطنية والقومية. تُذكر ديهيا كرمز للحرية ورفض الخنوع، ومثال على الاستعداد الدائم للكفاح من أجل الأرض والهوية، وهي قيم لا تزال صداها يتردد في المجتمعات الأمازيغية اليوم.

يهدف هذا المقال إلى تقديم رؤية متوازنة وشاملة لشخصية الكاهنة ديهيا، بعيداً عن التشويه أو التبجيل المفرط. يؤكد على أهمية البحث التاريخي النقدي لفهم تعقيدات الماضي وتأثيره على الحاضر، مع الاعتراف بأن التاريخ غالباً ما يُكتب من منظور المنتصرين، مما يتطلب جهداً إضافياً للكشف عن الروايات البديلة. يُبرز المقال دور ديهيا كشخصية تاريخية تستحق التقدير العميق، ليس فقط لانتصاراتها العسكرية وبراعتها القيادية، بل لكونها تجسيداً لروح المقاومة الأمازيغية وتراثها الثقافي الغني الذي لا يزال حياً ومؤثراً حتى يومنا هذا.

 


إرسال تعليق

0 تعليقات