Hot Posts

6/recent/ticker-posts

الدولة الحمادية وعاصمتها القلعة (قلعة بني حماد)

 


The Hammadid State and Its Capital Qalʿa (Qalʿat Bani Hammad) 

الدولة الحمادية وعاصمتها القلعة: إرث حضاري خالد في قلب الجزائر

تعتبر الدولة الحمادية، التي بزغ فجرها في شمال إفريقيا خلال العصر الإسلامي الوسيط، واحدة من أبرز الدول التي تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ الجزائر والمغرب الإسلامي. لم تكن مجرد قوة سياسية وعسكرية فحسب، بل كانت منارة حضارية وثقافية، تجسدت أبهى صورها في عاصمتها الأولى، قلعة بني حماد، تلك المدينة المحصنة التي شُيدت في أحضان الجبال، وشهدت ازدهارًا قل نظيره. إن قصة الحماديين، المنبثقة من رحم الدولة الزيرية، هي قصة طموح واستقلال، وإبداع معماري وفني، وعطاء فكري وعلمي، ما جعل من آثارهم، وعلى رأسها القلعة المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة الإسلامية في هذه الربوع. يستهدف هذا المقال جميع الشرائح الاجتماعية، ليقدم صورة شاملة عن هذه الدولة وعاصمتها الخالدة، مستكشفًا نشأتها، وأبرز محطاتها، وإرثها الذي لا يزال يلهمنا حتى اليوم.

نشأة الدولة الحمادية: من رحم الانقسام إلى صرح الاستقلال

الجذور الصنهاجية والعلاقة بالدولة الزيرية

ينتمي بنو حماد، مؤسسو الدولة الحمادية، إلى قبيلة صنهاجة، إحدى كبرى القبائل البربرية التي بسطت نفوذها في المغرب الأوسط (الجزائر حاليًا).1 وكان لزعماء هذه القبيلة دور محوري في تاريخ المنطقة، أبرزهم زيري بن مناد الصنهاجي، الذي قدم دعمًا كبيرًا للدولة الفاطمية الناشئة.1 وبعد وفاته، عيّن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، حين همّ بالانتقال إلى مصر عام 361هـ/971م، ابنه بلكين (أو بلقين) بن زيري أميرًا على المغرب كله، مانحًا إياه صلاحيات واسعة.1

في هذا السياق، يبرز حماد بن بلكين، الابن الرابع لبلكين، كشخصية محورية؛ فهو المؤسس الفعلي للدولة الحمادية وأول أمرائها.1 وُلد حماد قبل سنوات من تولي والده حكم المغرب الأوسط، ونشأ في ظل أسرة تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري متزايد. كانت العلاقة مع الدولة الزيرية، التي حكمت باسم الفاطميين، علاقة معقدة ومتشابكة. فالحماديون هم فرع من الزيريين، أبناء عمومة يشتركون في الأصل الصنهاجي.4

تأسيس قلعة بني حماد وإعلان الاستقلال

لم يكن قيام الدولة الحمادية وليد صدفة، بل كان نتيجة طبيعية لجملة من العوامل، أهمها الانشقاقات الداخلية التي عصفت بالأسرة الزيرية الحاكمة، وطموح حماد بن بلكين المتزايد نحو الاستقلال. ففي عهد المنصور بن يوسف، أمير الدولة الزيرية (373 - 386هـ/983 - 996م)، اندلعت ثورة لقبيلة زناتة، المنافس التقليدي لصنهاجة. عندها، عهد المنصور إلى حماد بن بلكين، الذي كان واليًا على المسيلة وأشير، بمهمة قمع هذه الثورة.1 نجح حماد في مهمته، وأعاد زناتة إلى بيت الطاعة، مما عزز من مكانته ونفوذه، وأتاح لبني زيري توسيع رقعة ملكهم.1

أقر باديس بن المنصور، خليفة أبيه، حمادًا على ولايته، بل وعهد إليه بقتال زناتة مجددًا بعد تجدد ثورتهم، مشترطًا له ولاية كل بلد


يفتحه.1 استغل حماد هذه الفرصة لتعزيز قوته الذاتية. وفي عام 398هـ/1007-1008م، شرع حماد في بناء عاصمته الحصينة، قلعة بني حماد، في موقع استراتيجي بالقرب من أشير وشمال شرق المسيلة.1 لم يكن اختيار هذا الموقع اعتباطيًا، بل كان خطوة مدروسة بعناية فائقة. فالقلعة، التي تتربع على ارتفاع يزيد عن 1000 متر فوق سطح البحر على سفوح جبل المعاضيد، تتمتع بمناعة طبيعية فريدة، وتحيط بها تضاريس وعرة توفر لها الحماية، بالإضافة إلى قربها من مصادر المياه والأراضي الزراعية الخصبة، وتحكمها في الطرق التجارية الهامة. هذا الاختيار الاستراتيجي يعكس مدى بصيرة حماد وحنكته العسكرية والسياسية، حيث أدرك أن تأسيس دولة قوية يتطلب قاعدة آمنة ومحصنة، وهو ما وفرته له القلعة بجدارة.

لم يلبث حماد طويلاً حتى أعلن استقلاله التام عن الدولة الزيرية حوالي عام 405هـ/1014-1015م، ولم يكتف بذلك، بل أعلن أيضًا ولاءه للخليفة العباسي في بغداد، متخليًا بذلك عن تبعيته الاسمية للفاطميين ومذهبهم الشيعي، ومعتنقًا المذهب السني المالكي السائد في المنطقة.1 لم يمر هذا الاستقلال مرور الكرام، فقد خاض ابنه القائد بن حماد حروبًا عديدة مع الزيريين، الذين اضطروا في نهاية المطاف إلى الاعتراف بدولة بني حماد المستقلة حوالي عام 1017م.4 وهكذا، وُلدت الدولة الحمادية، لتفتح صفحة جديدة في التاريخ الوسيط لشمال إفريقيا والجزائر، ولتصبح قلعة بني حماد واحدة من أبرز العواصم التاريخية في العصر الإسلامي. إن نشأة الدولة الحمادية لم تكن مجرد انفصال سياسي، بل كانت تعبيرًا عن نضج قوة محلية بربرية (صنهاجية) سعت إلى تأكيد ذاتها وهويتها المستقلة في إطار الحضارة الإسلامية الأوسع، مستفيدة من التصدعات الداخلية في الكيانات الأكبر، وموظفة ببراعة مواردها البشرية

 والجغرافية لبناء صرح دولة استمرت لأكثر من قرن ونصف



قلعة بني حماد: عاصمة شامخة وحاضرة مزدهرة

لم تكن قلعة بني حماد مجرد حصن عسكري، بل سرعان ما تحولت إلى مدينة عامرة بالحياة، ومركز إشعاع حضاري واقتصادي وفكري، تركت بصماتها الواضحة على العمارة الإسلامية والحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا.

اختيار الموقع وأهميته الاستراتيجية

كما أسلفنا، كان اختيار حماد بن بلكين لموقع القلعة موفقًا للغاية. فقد شُيدت على ارتفاع يقارب 1000 متر فوق سطح البحر، على السفح الجنوبي لجبل المعاضيد (تاكربوست)، مما وفر لها حماية طبيعية استثنائية.6 يحدها من الشمال جبل تاكربوست الذي يصل ارتفاعه إلى 1458 مترًا، ومن الغرب جبل غوريان، ومن الشرق تحميها خوانق وادي فرج.7 هذا الموقع الجبلي الوعر، ذو الجمال الأخاذ، جعل منها حصنًا منيعًا يصعب اختراقه، وهو ما كان ضروريًا لدولة ناشئة تسعى لتثبيت أركانها في منطقة عرفت الكثير من التقلبات والنزاعات.6 بالإضافة إلى المناعة، وفر الموقع إمكانية التحكم في الطرق التجارية الهامة ووفرة في الموارد الطبيعية من مياه وأراضٍ زراعية ومواد بناء.

تخطيط المدينة ومعالمها المعمارية البارزة

شهدت قلعة بني حماد تطورًا عمرانيًا سريعًا، وتحولت إلى مدينة متكاملة محاطة بأسوار دفاعية قوية يبلغ طولها حوالي 7 كيلومترات، تتخللها أبواب رئيسية مثل باب الأقواس وباب الجنان وباب جراوة.6 ضمت المدينة داخل أسوارها العديد من المنشآت المعمارية التي تعكس مدى الرقي والازدهار الذي بلغته الدولة الحمادية.

  • المسجد الجامع: يعتبر المسجد الجامع بقلعة بني حماد من أبرز معالمها، وهو من أكبر المساجد في الجزائر بعد مسجد المنصورة.6 يتميز المسجد بقاعة صلاة واسعة تتألف من 13 بلاطًا (صحنًا) وثماني فواصل (أساكيب)، وتستند إلى 48 سارية.6 أما مئذنته الشامخة، التي يبلغ ارتفاعها حوالي 20 أو 25 مترًا، فهي من أقدم المآذن في الجزائر بعد مئذنة سيدي بومروان، وتُظهر بعض التشابه مع مئذنة الخيرالدا في إشبيلية، وتعتبر نموذجًا للمآذن المربعة المميزة لطراز المغرب الإسلامي.6 تقع


    المئذنة في وسط الجدار الشمالي للمسجد، على نفس محور المحراب، وهو تقليد فني متبع في مساجد كبرى مثل جامع القيروان.11

  • القصور الأميرية: شيد الأمراء الحماديون خمسة قصور فخمة داخل القلعة، تدل على ثرائهم وذوقهم الرفيع، وإن كان معظمها قد تهدم اليوم.12 من أبرز هذه القصور:

    • قصر المنار (برج المنار): يقع هذا القصر، الذي لا يزال برجه المحصن قائمًا، على حافة جرف صخري يشرف على وادي فرج، مما يمنحه موقعًا استراتيجيًا ودفاعيًا.12 يتخذ البرج شكل برج إشارة مربع القاعدة، يبلغ ضلعها حوالي 20 مترًا، وتتميز واجهاته بمشاكٍ (تجويفات) مصمتة ذات قاعدة نصف دائرية تعلوها قباب نصفية على شكل محارة.14 كان قصر المنار بمثابة حصن متقدم ويحتوي على صوامع قادرة على تخزين الحبوب لمدة عامين في حالة الحصار.15
    • دار البحر (قصر البحيرة أو قصر الأمير): يقع هذا القصر بالقرب من المسجد الجامع، ويُعتقد أنه كان يستخدم للاستقبالات الرسمية أو كمقر إقامة للأمير.8 سمي بهذا الاسم نسبة إلى بركة مائية (بحيرة) صناعية كبيرة مستطيلة الشكل (أبعادها حوالي مترًا وعمقها 1.3 متر) كانت تتوسط فناءه الشرقي، وكانت تستخدم للعروض المائية وإطلاق القوارب الصغيرة عبر منحدر خاص.12 كان القصر محاطًا بأروقة ذات أعمدة وحدائق واسعة تمتد عبر المدينة، مما يدل على اهتمام الحماديين بالجمال والترفيه.12
    • قصور أخرى: شملت القصور الأخرى قصر السلام، وقصر الكواكب (أو النجمة)، وقصر الأمراء.8 كان قصر السلام على الأرجح مقر إقامة عائلة الحاكم، ويلخص العديد من جوانب العمارة الحمادية النموذجية.12
  • التخطيط الحضري: بالإضافة إلى المسجد والقصور، ضمت القلعة أحياء سكنية، وأسواقًا تجارية كانت مخصصة لها المنطقة الجنوبية الأكثر انبساطًا، وحمامات عامة، وشبكة طرق ودروب للمشاة والعربات.9 يدل هذا التخطيط على وجود إدارة مدنية متطورة وحياة حضرية منظمة.

الحياة الاقتصادية والفكرية في القلعة

لم تكن قلعة بني حماد مجرد تحصينات وقصور، بل كانت مركزًا اقتصاديًا نابضًا بالحياة ومنارة فكرية وثقافية جذبت إليها العقول من كل حدب وصوب.

  • الازدهار الاقتصادي: قامت الحياة الاقتصادية في القلعة على أسس متينة ومتنوعة:
    • الزراعة وتربية المواشي: اشتهرت القلعة وضواحيها بخصوبة أراضيها ووفرة إنتاجها الزراعي، خاصة الحبوب مثل القمح والشعير، بالإضافة إلى الأشجار المثمرة كالكروم والزيتون، والخضروات والبقوليات.16 وصف الإدريسي أهلها بأنهم "أبد الدهر شباع، وذلك لغناها بالحبوب" 16، وأن قمحها كان يكفي لسنة أو سنتين دون أن يفسد لكثرة غلته.17 كما ازدهرت تربية المواشي.
    • الصناعات المتنوعة: برع الحماديون في العديد من الصناعات، أبرزها صناعة الفخار والخزف والزجاج، وصناعة النسيج (ملابس الرجال والنساء)، وصناعة المعادن (الذهب والفضة والرصاص)، وصناعة المطاحن.8 تدل المكتشفات الأثرية على المستوى الرفيع الذي بلغته هذه الصناعات، خاصة الخزف ذو الزخارف المبدعة.
    • التجارة النشطة: بفضل موقعها الاستراتيجي على طرق القوافل الهامة التي تربط بين بلاد السودان وإفريقية، وبين المشرق والمغرب، تحولت القلعة إلى مركز تجاري مزدهر.12 وصفها البكري في القرن الحادي عشر بأنها "مقصد التجار، وبها تُحل الرحال من العراق والحجاز ومصر والشام وسائر بلاد المغرب".7 هذا النشاط التجاري لم يجلب السلع والبضائع فحسب، بل جلب أيضًا الأفكار والثقافات المختلفة.

إن هذا الازدهار الاقتصادي، القائم على تكامل الزراعة والصناعة والتجارة، هو الذي وفر الأساس المادي الصلب الذي انبثقت منه


الحياة الفكرية والثقافية الغنية في القلعة. فالوفرة الاقتصادية أتاحت التفرغ للعلم والفن، وجذبت الكفاءات من مختلف الأقطار، مما خلق بيئة خصبة للإبداع والابتكار.

  • الحياة الفكرية والثقافية: لم تكن القلعة مركزًا اقتصاديًا فحسب، بل كانت أيضًا حاضرة علمية وثقافية مرموقة.
    • ملتقى العلماء والمفكرين: اجتذبت القلعة، بفضل استقرارها النسبي وازدهارها، العديد من العلماء والشعراء والفقهاء والمتصوفة والحرفيين، خاصة بعد خراب القيروان على يد بني هلال، حيث هاجر إليها الكثير من أهلها حاملين معهم علومهم وفنونهم.8 يذكر ابن خلدون أن "وفرة المسافرين كانت بسبب ثروة الموارد التي قدمتها العاصمة الجديدة للمهتمين بالعلوم والتجارة والفنون".12
    • ازدهار العلوم: شهدت القلعة نهضة في مختلف فروع المعرفة:
      • العلوم الدينية: كان الفقه المالكي هو السائد، وبرز فقهاء كبار مثل حماد بن بلكين نفسه، وأبو القاسم ابن أبي مالك، وأبو الفضل يوسف بن محمد المعروف بابن النحوي.8 كما ازدهر علم القراءات وعلم الحديث، وإن كان الاهتمام بالفقه وأصوله أكبر.
      • العلوم اللسانية: اعتمد بنو حماد اللغة العربية لغة رسمية للدولة، فشهدت علوم النحو واللغة والبيان والأدب ازدهارًا، وبرز فيها علماء مثل أبي الفرج المازري وابن النحوي.8
      • الشعر والتاريخ: اتسم الشعر الحمادي بالجزالة والوقار، وتنوعت أغراضه. كما ظهر مؤرخون مثل أبو عبد الله محمد بن علي الصنهاجي.8
      • العلوم العقلية: كان للعلوم العقلية كالرياضيات (الحساب والجبر والفرائض) والطب والصيدلة حضورها، وبرز فيها علماء مثل علي بن معصوم القلعي في الرياضيات، وأبو جعفر بن علي البذوخ في الطب.8
    • المؤسسات التعليمية: أنشأ المهاجرون، خاصة الأندلسيين، العديد من المدارس على النمط الأندلسي، مما ساهم في نقل العلوم ورفع المستوى العلمي.8

الفنون والحرف اليدوية

تجلت براعة الصانع الحمادي وذوقه الرفيع في مختلف الفنون والحرف اليدوية، والتي عثر على نماذج منها في حفريات قلعة بني حماد.

  • الخزف والفخار: تعتبر صناعة الخزف من أبرز الفنون التي اشتهر بها الحماديون. تميز الخزف الحمادي بتقنياته المتقدمة

    وزخارفه المتنوعة، واستخدام ألوان مميزة كالبني، وتقنية البريق المعدني التي تضفي على الأواني لمعانًا جذابًا.8 استخدمت بلاطات الخزف المزخرفة بأشكال هندسية ونباتية لتزيين جدران وأرضيات القصور والمساجد.18 وقد وصلت هذه الصناعة إلى درجة من الرقي تضاهي مثيلاتها في المراكز الإسلامية الكبرى كفارس ومصر والأندلس.17
  • النحت والزخرفة المعمارية: تدل المكتشفات على براعة في النحت، مثل تماثيل الأسود الرخامية التي كانت تزين النوافير أو القصور، والنوافير المزخرفة بزخارف حيوانية (كالأسود) ونباتية وهندسية.12 كما استخدمت عناصر زخرفية معمارية متطورة مثل المقرنصات، وقد تكون قلعة بني حماد من أقدم المواقع التي استخدمت فيها المقرنصات في الغرب الإسلامي.12
  • صناعة الزجاج: كانت صناعة الزجاج من الحرف المزدهرة أيضًا، وعُثر على قطع زجاجية تدل على تطور هذه الصناعة.8
  • التأثيرات الفنية: تأثرت الفنون الحمادية بالعديد من المراكز الحضارية الإسلامية، فظهرت فيها تأثيرات من الفن الفاطمي في

    مصر، والفن العباسي في سامراء، والفن الأغلبي في القيروان، والفن الأندلسي.8 هذا التمازج بين التأثيرات المختلفة، مع الإبداع المحلي، أعطى للفن الحمادي طابعًا خاصًا ومميزًا.

الحياة الاجتماعية والدينية

عكست الحياة في قلعة بني حماد طبيعة الدولة والمجتمع في تلك الفترة.

  • التركيبة السكانية: كانت القلعة مدينة عالمية (كوزموبوليتانية) بمعايير عصرها، ضمت سكانًا من أصول متنوعة. إلى جانب السكان المحليين من قبيلة صنهاجة، استقبلت المدينة موجات من المهاجرين، أبرزهم القيروانيون الذين لجأوا إليها بعد تخريب مدينتهم على يد بني هلال عام 449هـ/1057م، حاملين معهم ثرواتهم وخبراتهم التجارية والعلمية.8 كما وفد إليها مهاجرون من الأندلس وصقلية، فارين من الاضطرابات السياسية أو بحثًا عن فرص جديدة.8 هذا التنوع السكاني أثرى الحياة في القلعة وساهم في ازدهارها.
  • السياسة الدينية: تبنى الحماديون المذهب السني المالكي مذهبًا رسميًا للدولة، وأعلنوا ولاءهم للخلافة العباسية في بغداد.4 هذا التوجه جعل من مناطق نفوذهم مركز جذب للعلماء والفقهاء السنة. ومع ذلك، تشير المصادر إلى وجود درجة من التسامح المذهبي، حيث تعايشت في القلعة جماعات أخرى مثل الخوارج الإباضية.8 هذه السياسة، التي جمعت بين الالتزام المذهبي الرسمي والانفتاح النسبي، ساهمت في تحقيق استقرار اجتماعي نسبي، وجعلت من الدولة الحمادية ملاذًا آمنًا للكثيرين في منطقة كانت تشهد تقلبات مذهبية وسياسية.
  • المؤسسات الدينية والعلمية: لعبت المساجد دورًا محوريًا ليس فقط كأماكن للعبادة، بل أيضًا كمراكز للتعليم ونشر المعرفة، حيث كانت تعقد فيها حلقات الدرس والمناظرات العلمية.17 كما انتشرت المدارس التي ساهم في إنشائها العلماء الوافدون، خاصة من الأندلس.8 وتشير بعض المصادر إلى وجود الزوايا التي كان لها دور في الحياة الدينية والفكر الصوفي.22
  • التصوف: عرفت القلعة، كغيرها من حواضر المغرب الإسلامي، شكلاً من أشكال التصوف السني، وبرز فيها متصوفة وعلماء اهتموا بهذا الجانب الروحي، مثل أبي القاسم وابن النحوي الذي حاول نشر فكر الإمام الغزالي في التصوف.8

<div style="border: 1px solid #ccc; padding: 10px; margin: 10px 0; background-color: #f9f9f9; font-size: 18px;">

قال العلماء والمؤرخون عن القلعة:

* البكري: وصفها في القرن الحادي عشر بأنها "قلعة كبيرة ذات منعة وحصانة... وهي مقصد التجار، وبها تُحل الرحال من العراق والحجاز ومصر والشام وسائر بلاد المغرب." 7

* ابن خلدون: لخص ازدهارها بقوله: "استبحرت في العمارة، واتسعت بالتمدن، ورحل إليها من الثغور القاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها." 16

* الإدريسي: وصف غناها بالحبوب ورخاء أهلها قائلاً عن أهلها إنهم "أبد الدهر شباع، وذلك لغناها بالحبوب.".16 وفي موضع آخر يصف وفرة القمح: "...كانت بكثرة غلتها تكفي لسنة أو سنتين دون أن تفسد." 8

</div>

إن هذه الشهادات من مؤرخين معاصرين لتلك الفترة تؤكد على المكانة المرموقة التي احتلتها قلعة بني حماد كواحدة من أهم عواصم تاريخية الجزائر وشمال إفريقيا، وكمركز حضاري متكامل الأركان.

أبرز حكام الدولة الحمادية وتطوراتها السياسية

تعاقب على حكم الدولة الحمادية تسعة أمراء، اختلفوا في القوة والضعف وأسلوب الحكم، وشهدت الدولة في عهودهم مراحل متباينة من التأسيس والقوة ثم الأفول.2

خلفاء حماد بن بلكين

بعد وفاة المؤسس حماد بن بلكين عام 419هـ/1028م، تولى الحكم عدد من أبنائه وأحفاده:

  • القائد بن حماد (419 - 446 هـ / 1028 - 1054 م): خلف أباه حماد، ووُصف بأنه كان "سديد الرأي، عظيم القدر".1 ورث عن أبيه طبعه الغليظ ووحشيته ومكره، ولكنه افتقر إلى حنكة أبيه السياسية وشجاعته.1 كانت فترة حكمه امتدادًا للفترة الأخيرة من حكم أبيه، حيث عمل على تنظيم القواعد الأساسية للدولة التي بدأها حماد.1
  • محسن بن القائد (446 – 447 هـ / 1054 – 1055 م): تولى الحكم بعد وفاة أبيه القائد، وكان جبارًا قويًا، لكنه لم يكن يتمتع بالحكمة السياسية اللازمة لإدارة شؤون البلاد.1 كان مندفعًا ومتسرعًا، وخالف وصية أبيه بعدم الخروج من القلعة لثلاث سنوات وعدم منازعة أعمامه في مناصبهم.1 أدت سياسته هذه إلى حدوث فرقة وشقاق، وانتهى به الأمر مقتولاً على يد ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد بعد تسعة أشهر فقط من توليه الحكم.1
  • بلكين بن محمد بن حماد (447 - 454 هـ / 1055 - 1062 م): استولى على الحكم بعد قتله لمحسن. شهد عهده توسعات مهمة للدولة الحمادية، حيث امتد نفوذها غربًا حتى حدود المغرب الأقصى، وتمكن من دخول مدينة فاس.2 كما غزا شمال المغرب عام 1062م واستولى على فاس لبضعة أشهر قبل أن يُغتال على يد ابن عمه الناصر بن علناس.25

عصر القوة والازدهار

يعتبر عهد الناصر بن علناس ومن بعده ابنه المنصور فترة الذروة في تاريخ الدولة الحمادية، حيث بلغت أوج قوتها واتساعها وازدهارها الحضاري.

  • الناصر بن علناس بن حماد (454 - 481 هـ / 1062 - 1088 م): يُعد عهده بحق العصر الذهبي للدولة الحمادية.1 تميز حكمه بعدة تطورات هامة:

    • نقل العاصمة إلى بجاية: في خطوة استراتيجية بالغة الأهمية، نقل الناصر عاصمة الدولة من قلعة بني حماد المنيعة إلى مدينة بجاية الساحلية (التي أسسها وسماها الناصرية) حوالي عام 460هـ/1067-1068م.2 جاء هذا القرار نتيجة لعدة عوامل، أبرزها الضغوط المتزايدة من قبائل بني هلال في المناطق الداخلية، والرغبة في تأمين منفذ بحري حيوي للدولة يسهل التجارة والاتصال بالعالم الخارجي، ويحصن الدولة من هجمات البدو.20 هذا الانتقال لم يكن مجرد تغيير جغرافي للعاصمة، بل عكس تحولًا في التوجه الاستراتيجي للدولة نحو البحر الأبيض المتوسط، مما فتح آفاقًا اقتصادية وسياسية جديدة، ولكنه أيضًا عرضها لمخاطر بحرية لم تكن قائمة بنفس الحدة في القلعة الداخلية.
    • التوسعات الكبرى: شهد عهد الناصر توسعات كبيرة للدولة، حيث امتد نفوذها شرقًا ليشمل مدنًا هامة مثل تونس والقيروان وصفاقس وسوسة وطرابلس، التي اعترف حكامها المحليون بسيادته.4 كما فتح مدنًا أخرى مثل قسنطينة والجزائر العاصمة وبسكرة ومليانة ونقاوس.4
    • الاهتمام بالعمارة والفنون: كان الناصر مولعًا بالفن والعمارة، وشجع الحرفيين والصناع، مما انعكس في ازدهار الفنون في عهده، وبناء منشآت عمرانية ضخمة مثل قصر اللؤلؤة في بجاية.8
  • المنصور بن الناصر (481 - 498 هـ / 1088 - 1104 م): سار على نهج أبيه في تعزيز قوة الدولة وتوسيع نفوذها.

    • إنجازات عسكرية: تمكن من فتح مدينة بونة (عنابة حاليًا).4 كما واصل توسيع نفوذ الدولة جنوبًا في مناطق الصحراء الكبرى.4
    • مواجهة التحديات: واجه المنصور بعض الثورات الداخلية، مثل ثورة عمه بلبار والي قسنطينة، وثورة ابن عمه أبي يكنى حاكم بونة.2 كما خاض حروبًا ضد المرابطين في الغرب، الذين كانوا يهددون حدود دولته، وانتهت هذه المواجهات بعقد هدنة بين الطرفين حوالي عام 1104م، مما سمح للمنصور بالتفرغ لمواجهة خطر قبائل زناتة في المغرب الأوسط.2

حكام آخرون حتى الأفول

بعد وفاة المنصور، توالى على الحكم عدد من الأمراء الذين شهدت الدولة في عهودهم بداية مرحلة التراجع والانحطاط التدريجي:

  • باديس بن المنصور (498 هـ / 1105 م): حكم لفترة قصيرة جدًا، ووُصف بأنه كان شديد البأس وسريع البطش، وقيل إن أمه دست له السم بسبب بعض أعماله.2
  • العزيز بن المنصور (498 - 515 هـ / 1105 - 1121 م): في عهده، خضعت جزيرة جربة لنفوذ الحماديين.4 شهدت بجاية في عهده ازدهارًا كبيرًا، وقُدّر عدد سكانها بحوالي 100,000 نسمة، وعمل الحماديون على تعزيز قوتهم في المدينة.25
  • يحيى بن العزيز (515 - 547 هـ / 1121 - 1152 م): كان آخر حكام الدولة الحمادية. وُصف بأنه كان رقيق النفس، منصرفًا إلى اللهو والصيد، مما أضعف من هيبة الدولة.2 شهد عهده تصاعد خطر الموحدين، وانتهى حكمه بسقوط الدولة.

إن تتبع مسيرة هؤلاء الحكام يكشف عن حقيقة مهمة، وهي أن الصراعات الداخلية على السلطة والاغتيالات كانت سمة متكررة في تاريخ الأسرة الحمادية.4 فهذا الاقتتال بين الأمراء، مثل مقتل محسن على يد ابن عمه، وموت باديس مسمومًا، والثورات المتعددة التي قادها أفراد من العائلة الحاكمة ضد الحاكم القائم، كل ذلك كان يستنزف موارد الدولة ويشغل قيادتها عن مواجهة التحديات الخارجية، ويخلق حالة من عدم الاستقرار المزمن. هذه الهشاشة الداخلية شكلت نقطة ضعف قاتلة، وجعلت الدولة أقل قدرة على الصمود أمام الأخطار المتزايدة التي كانت تحدق بها، سواء من بني هلال أو من القوى الإقليمية الصاعدة كالمرابطين ثم الموحدين.

جدول: أبرز حكام الدولة الحمادية وفترات حكمهم وإنجازاتهم الرئيسية

اسم الحاكمفترة الحكم (بالهجري)فترة الحكم (بالميلادي)أهم الإنجازات/الأحداث
حماد بن بلكين الصنهاجي398 – 419 هـ1007 – 1028 متأسيس الدولة الحمادية وقلعة بني حماد، إعلان الاستقلال عن الزيريين والولاء للعباسيين. 1
القائد بن حماد419 - 446 هـ1028 - 1054 متنظيم قواعد الدولة، تثبيت الاستقلال، إعادة العلاقة مع الفاطميين مؤقتًا ونيل لقب "شرف الدولة". 1
محسن بن القائد446 – 447 هـ1054 – 1055 مفترة حكم قصيرة ومضطربة، قُتل على يد ابن عمه. 1
بلكين بن محمد بن حماد447 - 454 هـ1055 - 1062 متوسعات نحو المغرب الأقصى ودخول فاس، غزو شمال المغرب. 16
الناصر بن علناس بن حماد454 - 481 هـ1062 - 1088 مذروة قوة الدولة، نقل العاصمة إلى بجاية (الناصرية)، توسعات كبيرة شملت تونس والقيروان وصفاقس، بناء بجاية وفتح مدن أخرى، اهتمام بالفنون والعمارة. 2
المنصور بن الناصر498 - 481 هـ1088 - 1104 مفتح بونة (عنابة)، امتداد النفوذ جنوبًا، مواجهة ثورات داخلية، حروب مع المرابطين ثم هدنة. 2
باديس بن المنصور498 هـ1105 مفترة حكم قصيرة جدًا، قيل إنه مات مسمومًا. 2
العزيز بن المنصور515 - 498 هـ1105 – 1121 مخضوع جربة، ازدهار بجاية، طرد الهلاليين من الحضنة. 4
يحيى بن العزيز الحمادي547 - 515 هـ1121 – 1152 مآخر حكام الدولة، واجه خطر الموحدين والنورمان، سقوط الدولة في عهده. 2

تحديات وأفول الدولة الحمادية

على الرغم من فترات القوة والازدهار التي شهدتها الدولة الحمادية، إلا أنها واجهت تحديات جسيمة أدت في نهاية المطاف إلى ضعفها وسقوطها، لتطوى بذلك صفحة هامة من التاريخ الوسيط في شمال إفريقيا.

الصراعات الداخلية على السلطة

كانت النزاعات الداخلية على السلطة بمثابة داء مزمن نخر في جسد الدولة الحمادية منذ نشأتها تقريبًا. فكما ذُكر سابقًا، اتسمت الحياة السياسية بالاضطراب والتنافس الشديد بين أفراد البيت الحاكم.4 حوادث الاغتيال، مثل مقتل الأمير محسن بن القائد على يد ابن عمه بلكين بن محمد 1، وموت الأمير باديس بن المنصور مسمومًا، ربما بتدبير من والدته 2، والثورات المتكررة التي قادها أمراء من الأسرة الحاكمة ضد السلطة المركزية، مثل ثورة بلبار بن علناس وأبي يكني بن محسن ضد الأمير منصور 4، كلها شواهد على حالة عدم الاستقرار السياسي التي عانت منها الدولة. هذه الصراعات لم تكن مجرد خلافات عابرة، بل كانت حروبًا أهلية تستنزف موارد الدولة، وتشغل قادتها عن مواجهة الأخطار الخارجية، وتضعف من تماسك الجبهة الداخلية، مما جعل الدولة أكثر عرضة للضغوط والتهديدات.

الغزو الهلالي

شكل تدفق قبائل بني هلال وبني سليم العربية إلى شمال إفريقيا، بدءًا من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، نقطة تحول فارقة في تاريخ المنطقة، وكان له آثار مدمرة على الدولة الحمادية وغيرها من الكيانات السياسية القائمة.4 هذه الهجرات، التي وصفت أحيانًا "بالغزو الهلالي"، لم تكن مجرد انتقال سكاني، بل كانت تحمل معها تغييرات عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

  • الآثار الاقتصادية والاجتماعية: أدى انتشار هذه القبائل البدوية، التي اعتمدت بشكل كبير على الرعي، إلى تخريب الأراضي الزراعية، وتعطيل شبكات الري، وتدهور الحياة الحضرية في العديد من المناطق الداخلية.28 كما تسببت في انعدام الأمن على الطرق التجارية، مما أثر سلبًا على النشاط الاقتصادي الذي كانت تعتمد عليه الدولة الحمادية بشكل كبير.29
  • الآثار العسكرية والسياسية: شكلت هذه القبائل ضغطًا عسكريًا متزايدًا على الحماديين، وأضعفت سيطرتهم على المناطق الداخلية الشاسعة، مما أجبرهم على الانحسار تدريجيًا نحو المناطق الساحلية.4 وكان هذا الضغط أحد العوامل الرئيسية التي دفعت الأمير الناصر بن علناس إلى نقل العاصمة من قلعة بني حماد المنيعة إلى مدينة بجاية الساحلية حوالي عام 1090م، في محاولة لتأمين الدولة وإيجاد قاعدة أكثر أمانًا واستقرارًا بعيدًا عن تهديدات بني هلال المباشرة.20 ورغم محاولات التحالف مع بعض هذه القبائل أو شراء ولائها أحيانًا، إلا أن النفوذ الهلالي ظل يشكل تحديًا مستمرًا لاستقرار الدولة الحمادية وسلطتها الفعلية على أراضيها.25

إن الغزو الهلالي لم يكن مجرد عامل خارجي أضعف الدولة الحمادية، بل كان بمثابة محفز لتغييرات هيكلية عميقة في المشهد المغاربي. فقد أدى إلى تراجع دور القبائل البربرية المستقرة كصنهاجة وزناتة في بعض المناطق، وصعود نفوذ العناصر العربية البدوية. هذا التغيير الديموغرافي والاجتماعي أثر على موازين القوى، وساهم في خلق بيئة مضطربة سهلت فيما بعد بروز قوى جديدة أكثر تماسكًا وقدرة على حشد الطاقات القبلية، مثل المرابطين ثم الموحدين، الذين استفادوا من حالة الضعف والتفتت التي أصابت الدول القائمة.

العلاقات مع القوى الإقليمية

كانت الساحة السياسية في شمال إفريقيا والأندلس خلال فترة حكم الحماديين تموج بالقوى المتنافسة، مما فرض على الدولة الحمادية الدخول في شبكة معقدة من التحالفات والصراعات.

  • المرابطون: شكل المرابطون، الذين أسسوا دولة قوية انطلقت من أقصى المغرب وامتدت لتشمل الأندلس، تحديًا كبيرًا للحماديين في الغرب. دارت بين القوتين معارك طاحنة، تمكن فيها الحماديون أحيانًا من تحقيق انتصارات، مثل استيلائهم على تلمسان من المرابطين في عامي 1102-1103م بقيادة المنصور بن الناصر.25 ومع ذلك، كانت هناك أيضًا فترات من الهدنة والتقارب، خاصة عندما ظهر خطر مشترك يهدد الطرفين، مثل صعود قوة الموحدين، حيث تشير بعض المصادر إلى تحسن العلاقات ومحاولات للتحالف لمواجهة هذا التحدي الجديد.2
  • النورمان في صقلية: مع سيطرة النورمان على صقلية في القرن الحادي عشر، برز تهديد بحري جديد على سواحل شمال إفريقيا. تعرضت الدولة الحمادية، خاصة بعد انتقال عاصمتها إلى بجاية الساحلية، لغارات نورمانية، مثل الهجوم على جيجل عام 537هـ/1142م، حيث تم احتلالها ونهبها وتخريب قصر النزهة الذي بناه يحيى بن العزيز.2 كان هناك تنافس بين الحماديين والنورمان على النفوذ في إفريقية (تونس حاليًا)، مما استدعى من الحماديين تطوير قوتهم البحرية، وإن كانت جهودهم قد أُحبطت أحيانًا بسبب قوة النورمان البحرية.25
  • الفاطميون والعباسيون: كما ذكرنا سابقًا، تأرجح ولاء الحماديين بين الخلافة الفاطمية الشيعية في القاهرة والخلافة العباسية السنية في بغداد. كان هذا التحول في الولاء جزءًا من المناورات السياسية الإقليمية، حيث كان الحماديون يسعون لتأكيد استقلالهم والحصول على الشرعية والدعم من القوة التي يرونها الأنسب لمصالحهم في كل مرحلة.2 هذا التقلب يعكس الطبيعة البراغماتية لسياسة الحماديين الخارجية، التي كانت تستجيب للظروف المتغيرة والضغوط الآنية، أكثر من كونها مبنية على استراتيجية ثابتة طويلة الأمد. هذه السياسة الارتجالية، وإن كانت قد حققت بعض المكاسب المؤقتة، إلا أنها ربما أسهمت في عزلتهم عندما واجهوا تحديًا وجوديًا من قوة موحدة وإيديولوجية كالموحدين.

صعود دولة الموحدين وسقوط الدولة الحمادية

كان ظهور الحركة الموحدية في المغرب الأقصى، بقيادة المهدي بن تومرت ثم خليفته عبد المؤمن بن علي، بمثابة المسمار الأخير في نعش الدولة الحمادية.31 انطلقت هذه الحركة الدينية والسياسية بقوة، حاملةً مشروعًا توحيديًا يهدف إلى إقامة دولة قوية تمتد على كامل المغرب الإسلامي.

بدأ التوسع الموحدي شرقًا، وسرعان ما وصل إلى أراضي الدولة الحمادية. في عام 1145م، استولى عبد المؤمن بن علي على تلمسان ووهران.25 ثم في عام 1151م، وجه جيوشه مباشرة ضد الحماديين.25 سقطت الجزائر العاصمة في أيديهم عام 1152م، وفي نفس العام، تمكن الموحدون من الاستيلاء على بجاية، العاصمة الثانية للحماديين، بعد سحق قوات الأمير يحيى بن العزيز عند أبواب المدينة.20

أمام هذا الزحف الموحدي الكاسح، فر يحيى بن العزيز، آخر أمراء بني حماد، إلى قسنطينة، لكنه اضطر للاستسلام بعد عدة أشهر.2 عامله عبد المؤمن بن علي معاملة كريمة في البداية، ثم نقله إلى مراكش، ومنها إلى سلا، حيث توفي في المنفى حوالي عام 558هـ/1163م.2 وبسقوط بجاية واستسلام يحيى، انتهى حكم الدولة الحمادية الذي دام قرابة قرن ونصف، وضُمت أراضيها إلى الإمبراطورية الموحدية الناشئة.5

وهكذا، طويت صفحة الدولة الحمادية، التي رغم ما حققته من إنجازات حضارية وعمرانية، لم تستطع الصمود أمام تراكم التحديات الداخلية والخارجية، لتترك وراءها إرثًا غنيًا، أهمه آثار عاصمتها الأولى قلعة بني حماد، الشاهدة على فترة حاسمة من تاريخ الجزائر والحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا.

الإرث الحضاري للدولة الحمادية وقلعة بني حماد

على الرغم من سقوطها السياسي، تركت الدولة الحمادية إرثًا حضاريًا غنيًا ومتنوعًا، لا تزال آثاره ماثلة للعيان، وتشهد على مدى الإسهام الذي قدمته هذه الدولة في مجالات العمارة الإسلامية والفنون والعلوم، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا والتاريخ الوسيط لالجزائر.

التأثير في العمارة والفنون الإسلامية

كان الحماديون بناة مهرة، وتركوا بصمات واضحة في تطوير أساليب معمارية وفنية مميزة في شمال إفريقيا. لم يقتصر تأثيرهم على مناطق نفوذهم المباشر، بل امتد ليشمل مناطق أخرى مثل الأندلس وصقلية، حتى أن بعض المؤرخين يشيرون إلى تأثير العمارة الإسلامية الحمادية على الفن المعماري لدى النورمان في صقلية.6

تعتبر قلعة بني حماد، عاصمتهم الأولى، النموذج الأبرز لهذا الإبداع المعماري. فقد اشتملت على منشآت ضخمة ومتنوعة، مثل المسجد الجامع بمئذنته الشامخة التي تعتبر نموذجًا أوليًا للمآذن المربعة ذات الثلاثة طبقات التي انتشرت لاحقًا في الغرب الإسلامي (مثل مئذنة الخيرالدا في إشبيلية).12 كما تميزت القصور الحمادية، مثل قصر المنار ودار البحر، بتصميماتها الفريدة واستخدامها للعناصر المائية والحدائق بشكل واسع.12

من الابتكارات الفنية الهامة التي ارتبطت بالحماديين استخدام بلاطات الخزف ذي البريق المعدني في تزيين المباني، وهي تقنية متقدمة تعكس مهارة الحرفيين.18 كما تشير بعض الاكتشافات الأثرية في القلعة إلى أن الحماديين كانوا من أوائل من استخدموا عنصر المقرنصات في الزخرفة المعمارية في الغرب الإسلامي، وهو عنصر أصبح لاحقًا من السمات المميزة للعمارة الإسلامية في المغرب والأندلس.12 كذلك، فإن استخدام الأقواس متعددة الفصوص ذات الزخارف الحلزونية في قلعة بني حماد يعتبر سابقًا لانتشارها الواسع في العصرين المرابطي والموحدي.12

إن هذا الإرث المعماري والفني لا يمثل فقط إنجازًا للحماديين أنفسهم، بل يشكل حلقة وصل هامة في تطور الأساليب المعمارية الإسلامية وانتقالها عبر حوض البحر الأبيض المتوسط. فقد استلهم الحماديون من تقاليد معمارية سابقة ومتنوعة (فاطمية، عباسية، أغلبية، أندلسية) 20، وأضافوا إليها بصمتهم الخاصة، ثم أصبحت إبداعاتهم بدورها مصدر إلهام لمن جاء بعدهم، مما يؤكد على حيوية التبادل الثقافي والفني في تلك الفترة.

قلعة بني حماد اليوم: شاهد على التاريخ

تقف أطلال قلعة بني حماد اليوم شامخة على سفوح جبل المعاضيد، شاهدة على عظمة دولة وحضارة غابرة. ونظرًا لأهميتها التاريخية والمعمارية الاستثنائية، أدرجتها منظمة اليونسكو على قائمة التراث العالمي عام 1980.6 وقد استند هذا التصنيف إلى المعيار الثالث الذي ينص على أن "قلعة بني حماد تقدم شهادة استثنائية للحضارة الحمادية التي اندثرت الآن. تأسست عام 1007 كمعقل عسكري، ثم ارتقت إلى مستوى حاضرة. وقد أثرت في تطور العمارة العربية فضلاً عن تأثيرات حضارية أخرى، بما في ذلك المغرب والأندلس وصقلية".6

ومع ذلك، تواجه هذه الأطلال تحديات جمة تهدد بقاءها. فالعوامل الطبيعية من تعرية وتجوية تؤثر سلبًا على الآثار المتبقية.6 كما أن التوسع العمراني للمناطق المجاورة يشكل ضغطًا على الموقع الأثري وحدوده.35 بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسة إلى التمويل المستمر والكوادر المتخصصة لتنفيذ برامج ترميم وصيانة شاملة.6 وقد أشارت تقارير إلى فترات طويلة مرت دون عمليات ترميم جادة، وإن كانت هناك مبادرات حديثة واعدة، مثل إعلان انطلاق عملية ترميم للقلعة في مايو 2023 بعد توقف دام نحو 20 عامًا.36 كما أن الدولة الجزائرية، بصفتها الطرف المعني، أبدت نيتها لمراجعة حدود الموقع وإنشاء منطقة عازلة لحماية بيئته الاستثنائية.6

إن حالة قلعة بني حماد الراهنة، بتحدياتها وآمالها، تعكس قضية أوسع تواجه العديد من المواقع التاريخية حول العالم: وهي ضرورة الموازنة بين متطلبات الحفاظ على التراث الأصيل واحتياجات التنمية الحديثة، وأهمية توفير الإرادة السياسية والموارد اللازمة لحماية هذا الإرث الإنساني المشترك للأجيال القادمة.

القلعة كوجهة سياحية وثقافية

على الرغم من أن عدد زوار قلعة بني حماد لا يزال محدودًا نسبيًا (بضعة آلاف سنويًا حسب تقديرات اليونسكو) 6، مما يعني أن السياحة لا تشكل حاليًا تهديدًا مباشرًا لصيانة الموقع، إلا أن القلعة تمتلك إمكانات هائلة كوجهة سياحية وثقافية متميزة في الجزائر.38 فموقعها الطبيعي الخلاب، وأهميتها التاريخية كأول عاصمة للحماديين، وروعة آثارها المتبقية، تجعل منها مكانًا فريدًا يجذب محبي التاريخ والآثار والطبيعة على حد سواء.39

إن تطوير السياحة الثقافية المستدامة في قلعة بني حماد يمكن أن يساهم في تعزيز الوعي بالتراث الجزائري الغني، وتوفير موارد إضافية لدعم جهود الحفظ والصيانة، وتحقيق التنمية المحلية للمناطق المحيطة. يتطلب ذلك وضع خطط متكاملة تشمل تحسين البنية التحتية، وتوفير خدمات للزوار، وتدريب مرشدين متخصصين، وتنظيم فعاليات ثقافية وتعليمية تسلط الضوء على تاريخ الموقع وأهميته.

خاتمة: صدى الماضي في حاضر الجزائر ومستقبلها

إن الدولة الحمادية، بعاصمتها الأولى قلعة بني حماد، تمثل فصلًا مضيئًا في التاريخ الوسيط للجزائر وشمال إفريقيا. لقد كانت قوة سياسية مؤثرة، ومركزًا حضاريًا مشعًا، تركت إرثًا معماريًا وفنيًا وعلميًا لا يزال يثير الإعجاب ويلهم الباحثين والمهتمين بتاريخ الحضارة الإسلامية.

إن آثار قلعة بني حماد، بمساجدها وقصورها وأسوارها، ليست مجرد حجارة صماء، بل هي ذاكرة حية تحكي قصة شعب ودولة، وتروي فصولاً من الإبداع الإنساني والتفاعل الحضاري. إنها جزء أصيل من الهوية الوطنية الجزائرية، وجسر يربط الحاضر بالماضي العريق.

ومن هنا، تنبع أهمية الاعتزاز بهذا التراث الفريد، والعمل الجاد على حمايته وصيانته للأجيال القادمة. إن دعم جهود الحفاظ على المواقع الأثرية، وتشجيع البحث العلمي لاستكشاف المزيد من كنوزها، وتوظيفها كأداة للتعليم والتثقيف والتنمية المستدامة، هو واجب وطني ومسؤولية حضارية.

إن قصة الحماديين وقلعة بني حماد تقدم دروسًا قيمة لحاضر الجزائر ومستقبلها. فهي تذكرنا بأهمية الوحدة والاستقرار السياسي كركيزة أساسية للنهضة والازدهار، وبضرورة الرؤية الاستراتيجية في إدارة الموارد ومواجهة التحديات. كما تؤكد على أن الاستثمار في الثقافة والعلم والفن ليس ترفًا، بل هو أساس بناء الأمم القوية، ومصدر فخر وهوية للأجيال. لقد ساهمت الفترة الحمادية، من خلال رعايتها لثقافة تمزج بين الأصالة البربرية والتيارات الحضارية الإسلامية الأوسع، في تشكيل المسار التاريخي والثقافي المتميز لما أصبح يعرف اليوم بالجزائر، مانحة إياها خصوصية فريدة ضمن فسيفساء المغرب الإسلامي الكبير.

المصادر والمراجع

  • البكري، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز. 7
  • ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد. 7
  • الإدريسي، محمد بن محمد. 8
  • ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم. 40
  • لسان الدين بن الخطيب. 1
  • عويس، عبد الحليم. دولة بني حماد صفحة رائعة من التاريخ الجزائري. 41
  • بورويبة، رشيد. الحماديون. 7 وأبحاثه حول حفريات القلعة.43
  • جولفان، لوسيان. المغرب الأوسط في عصر الزيريين و أبحاث أثرية في قلعة بني حماد. 7
  • منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). وثائق متعلقة بإدراج قلعة بني حماد على قائمة التراث العالمي. 6
  • مقالات ودراسات أكاديمية منشورة عبر منصات مثل ASJP و Scribd ومواقع إخبارية وثقافية..1

الكلمات الرئيسية

الدولة الحمادية، قلعة بني حماد، الجزائر، العصر الإسلامي، الدولة الزيرية، العمارة الإسلامية، التاريخ الوسيط، شمال إفريقيا، الحضارة الإسلامية، عواصم تاريخية، بنو حماد، صنهاجة، المغرب الأوسط، بجاية، الناصر بن علناس، عبد المؤمن بن علي، الموحدون، الغزو الهلالي، التراث العالمي، اليونسكو، الفن الحمادي، الاقتصاد الحمادي، الحياة الفكرية الحمادية.


إرسال تعليق

0 تعليقات