الجزائر بين الشرق والغرب: تحليل معمق للموقع الاستراتيجي والعبء التاريخي
I. المدخل التحليلي: الجزائر كـ "قوة محورية" في الفضاء المتوسطي والإفريقي
تتمتع الجزائر بمركز جغرافي فريد، يضعها عند تقاطع ثلاث مساحات جيوسياسية رئيسية: أوروبا (الشمال المتوسطي)، وإفريقيا (العمق الجنوبي الصحراوي والساحل)، والشرق الجديد (آسيا عبر الشراكات المتنامية). يتطلب تحليل وضع الجزائر تقييماً دقيقاً لما إذا كانت هذه المركزية الجغرافية قد تحولت إلى ميزة استراتيجية فعالة ومستدامة، أم أنها ظلت تشكل عبئاً تاريخياً متراكماً على صعيد التنمية الاقتصادية والأمن القومي.
إن مفهوم الموقع الاستراتيجي (Geostrategic Positioning) يُعرف بأنه نقطة التقاء وتداخل المصالح العالمية والإقليمية، مما يمنح الدولة نفوذاً طبيعياً. في المقابل، يمثل مفهوم العبء الجيوبوليتيكي (Geopolitical Burden) التكاليف الباهظة، الأمنية والاقتصادية، المترتبة على هذه المركزية، مثل تحديات الحدود الممتدة والضغوط الناتجة عن الاستقطاب الدولي.
تتمثل الأطروحة المركزية لهذا التقرير في أن الجزائر تمتلك "ميزة استراتيجية كامنة" لا يمكن إنكارها، تتجلى في كونها بوابة الطاقة الآمنة لأوروبا وكونها محورا لوجستيا حيويا لإفريقيا. لكن هذه الميزة معوقة تاريخياً بـ "عبء الهيكل الاقتصادي الريعي" الذي يحد من قدرتها على تحقيق تنويع اقتصادي شامل، وبـ "التحديات الأمنية الإقليمية المتمثلة في هشاشة منطقة الساحل" الذي يستنزف مواردها الأمنية. إن استراتيجية الجزائر المستقبلية ترتكز على تحويل هذه الأعباء التاريخية والجيوبوليتيكية إلى رافعة للسيادة الوطنية والنفوذ الإقليمي.
II. الموقع الجغرافي الاستراتيجي: تقييم العقدة اللوجستية والطاقوية
يشكل الموقع الجغرافي للجزائر، بوصفها أكبر بلد في إفريقيا مطل على حوض المتوسط، ركيزة أساسية لتفاعلها مع النظام الدولي. يتجسد هذا الموقع في ثلاثة أبعاد رئيسية: القرب من أوروبا، العمق الإفريقي، والتحكم في إمدادات الطاقة.
أ. الجزائر كبوابة متوسطية لأوروبا والأسواق العالمية
تتمتع الجزائر بواجهة بحرية حيوية تسهل التواصل المباشر مع الأسواق الأوروبية، خاصة إيطاليا، إسبانيا، وفرنسا.1 هذا القرب ليس مجرد ميزة جغرافية، بل يمثل نقطة وصل هامة لتسهيل حركة السلع الإفريقية نحو أسواق أوروبا، والعكس صحيح.1
لتجسيد هذا الدور المحوري، أطلقت الجزائر مشاريع بنية تحتية عملاقة، أبرزها مشروع ميناء الحمدانية (الوسط)، الذي يُنفذ بالشراكة مع الصين. يُتوقع أن يكون هذا الميناء، بتكلفة إجمالية تبلغ حوالي 6 مليارات دولار، مركزاً رئيسياً للتجارة البحرية في المتوسط بحلول عام 2030، ويهدف إلى منافسة موانئ مرموقة مثل ميناء بيريوس في اليونان.2 إن إشراك الصين في بناء وتشغيل هذا المرفق له دلالة جيواقتصادية عميقة، حيث يسمح للجزائر بتحويل موقعها من مجرد نقطة عبور إلى مركز للرسملة اللوجستية، مستفيدة من مبادرة الحزام والطريق. وتدل الشراكة مع قوة عظمى شرقية مثل الصين على أن الجزائر تستخدم نفوذ "الشرق" لرفع قيمتها الاستراتيجية تجاه "الغرب"، مما يعزز من قدرتها على التفاوض المستقل في الساحة المتوسطية.
ب. العمق الإفريقي ورهان الاندماج (الجنوب)
تعتبر الجزائر جسراً برياً يربط شمال القارة بعمقها. ويعد الطريق العابر للصحراء (طريق الوحدة الأفريقية) من أبرز المشاريع التنموية، حيث يسهل نقل السلع من المناطق الشمالية إلى الجنوب ويفتح آفاق التجارة مع دول غرب إفريقيا مثل موريتانيا.1 وقد رافق هذا المشروع الاستراتيجي مد الألياف البصرية، مما يجعل الجزائر محوراً رقمياً مهماً يربط شمال وجنوب القارة.3
تدعم الجزائر حركة التجارة البينية الأفريقية بشكل فعال، خاصة في إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، من خلال استراتيجية متكاملة تشمل إنشاء مناطق حرة بحرية وبرية في مختلف المناطق الحدودية.1 هذا التركيز على البنية التحتية القارية يكرس دور الجزائر كقوة محورية تسعى لتحقيق نهضة تنموية إفريقية شاملة، وهو ما يعكس التزاماً تاريخياً بالوحدة والتضامن الإفريقيين.4
ج. الجزائر كقلب الطاقة لأوروبا
في سياق عالمي مطبوع بالتوترات الجيوسياسية ونقص إمدادات الطاقة، برزت الجزائر كمورد آمن وموثوق للطاقة لأوروبا.5 تمتلك الجزائر أكبر احتياطي غاز في إفريقيا ورابع أكبر احتياطي عالمياً (حاسي الرمل).5
وقد ازدادت أهمية هذا الدور بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث باتت دول الغرب بحاجة ماسة لإمدادات الغاز الطبيعي الإضافية، مما يجعل أوروبا أول زبون للغاز الجزائري.6 هذا الاعتماد الأوروبي يمنح الجزائر قوة تفاوضية هائلة. فبالرغم من عمق علاقاتها العسكرية مع روسيا، فإن حاجة أوروبا للطاقة توفر للجزائر حصانة جزئية ضد الضغوط الغربية، وتحول العلاقة إلى علاقة مبنية على الحاجة الملحة، حيث يمكن أن تكون أوروبا "مدافعاً فعالاً عن الجزائر في واشنطن".6
كما تعمل الجزائر على تعزيز موقعها الطاقوي عبر مشاريع مستقبلية، مثل مشروع بوستينغ 3 لرفع نسبة استغلال الغاز، ومشروع خط أنابيب الغاز العابر للصحراء (TSGP) الطموح، الذي يهدف إلى توفير مصدر طاقة مستدام لأوروبا عبر نيجيريا، مع إمكانية التشغيل بحلول عام 2030.7
الجدول 1: المشاريع الاستراتيجية لتعزيز الترابط القاري والدولي
III. الأبعاد التاريخية وتشكيل الهوية الاستراتيجية
شكلت الأحداث التاريخية، من الكفاح التحرري إلى مرحلة الاستقلال ومرحلة الاستقطاب العالمي، الإطار الذي حكم دور الجزائر بين الشرق والغرب، محولة إرث المقاومة إلى عقيدة سياسية.
أ. إرث الكفاح التحرري وعقيدة عدم الانحياز
استندت الجزائر بعد استقلالها إلى إرث ثوري عميق، حيث كان كفاحها ضد الاحتلال الفرنسي مصدر إلهام لباقي شعوب القارة، مما منحها لقب "مكة الثوار".4 وقد أدى هذا الإرث إلى تبني عقيدة عدم الانحياز، التي كانت تمثل جوهر علاقة الجزائر بإفريقيا.8
في فترة الستينيات والسبعينيات، ميزت السياسة الخارجية الجزائرية نفسها بالبعد الأيديولوجي في إطار الاستقطاب الاستراتيجي العالمي الحاد بين الشرق والغرب.8 إن هذا الالتزام بعدم الانحياز لم يكن مجرد خيار أيديولوجي، بل كان ضرورة وجودية للحفاظ على السيادة الوطنية في مواجهة القوى العظمى المتنافسة. هذا التوجه حمى الجزائر من خطر التبعية الاقتصادية أو العسكرية العميقة لأي طرف، مما سمح بتأسيس فلسفة الموازنة التي تحكم علاقاتها الدولية حتى اليوم.
ب. التحول الأيديولوجي والواقعية السياسية
شهدت السياسة الجزائرية تحولات جذرية في الثمانينيات، مع تزايد الضغوط الاقتصادية الناجمة عن اعتمادها على النموذج الاشتراكي الريعي. وقد أوضح هذا التحول مدى الخلل البنيوي للاقتصاد الريعي وحجم الفشل الذي مُني به النموذج الاشتراكي.8
أدت هذه التحديات الداخلية إلى تحول تدريجي نحو الواقعية السياسية والبراغماتية، مع بدء الانفتاح على الغرب. ففي عام 1983، قام الرئيس الأسبق بن جديد بأول زيارة رسمية لرئيس جزائري إلى فرنسا، تلتها زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985.8 ومع ذلك، دخلت السياسة الخارجية الجزائرية في حالة من الأفول عالمياً، خاصة في إفريقيا، خلال سنوات التسعينيات، بفعل عوامل داخلية عديدة، وهو ما يمثل عبئاً تاريخياً انعكس على دورها الإقليمي.8
ج. قضايا إقليمية تشكل عبئاً تاريخياً
بالإضافة إلى العبء الاقتصادي، واجهت الجزائر عبئاً جيوبوليتيكياً في مجالها الإقليمي تمثل في قضية الصحراء الغربية. مثلت هذه القضية، منذ منتصف السبعينيات، "متغيراً جديداً يحكم السياسة الخارجية الجزائرية في مجالها الإفريقي".8
وقد استدعى هذا الملف تجند الجزائر من أجل كسب الدعم الإفريقي لموقفها.8 ورغم أن الدعم الإفريقي لم يعد بنفس الأهمية بعد تطبيع العلاقات الجزائرية-المغربية في فترات لاحقة وإرادة بعث مشروع التكامل المغاربي، إلا أن الانخراط المستمر في هذا الملف يمثل عبئاً جيوبوليتيكياً استنزف وما زال يستنزف الموارد الدبلوماسية والسياسية للجزائر، ويحول انتباهها بعيداً عن أهداف التنمية والاندماج الأفريقي الأوسع. وبالتالي، فإن هذا العبء التاريخي يحد من قدرة الجزائر على تحقيق كامل إمكاناتها كمحور إقليمي اقتصادي.
IV. الأثر السياسي: إستراتيجية الموازنة والرهانات الإقليمية
تعكس السياسة الخارجية الحالية للجزائر امتداداً لعقيدة عدم الانحياز، وهي محاولة واعية للموازنة النشطة في العلاقات الاستراتيجية بين القوى الكبرى، وهو ما يوفر لها هوامش مناورة جيوسياسية حاسمة.
أ. سياسة التوازن الاستراتيجي (الشرق والغرب)
تؤكد السلطات الجزائرية أن توجهاتها الدبلوماسية متوازنة ومبنية على تنويع الشراكات، وعدم تفضيل طرف على آخر.6
1. التوجه نحو الشرق (الصين وروسيا)
بادرت الجزائر بخطوات لتعزيز العلاقات مع قوى الشرق، خاصة في ظل حالة الاستقطاب الحاد بين موسكو والكتلة الغربية بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.6
روسيا: يتركز التعاون مع روسيا في المجال العسكري والأمني. تعد الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم، وموسكو هي الممول الأول للجيش الجزائري بالأسلحة والأنظمة الحربية بنسبة تفوق 50%.6 هذا التعاون الاستراتيجي يتم تعميقه بزيارات متبادلة رفيعة المستوى.6
الصين: الصين هي الشريك التجاري الأول للجزائر وصدارة المصدرين إليها منذ عام 2013. وقد وقع البلدان اتفاقية تعاون استراتيجي تمتد حتى 2026 وتشمل الاقتصاد، الطاقة، والفضاء.6 كما انضمت الجزائر إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية في 2018، مما يعمق اندماجها في النظام التجاري الشرقي.
بريكس: مثلت خطوة تقديم طلب رسمي للانضمام إلى مجموعة "بريكس" دليلاً واضحاً على استراتيجية الجزائر لتعميق تنويع الشراكات الاستراتيجية وتقليل اعتمادها على الأحادية القطبية الغربية.6
2. الحفاظ على علاقات مستقرة مع الغرب
بالتوازي مع توجهها نحو الشرق، تحافظ الجزائر على علاقات قوية وبراغماتية مع الغرب.
أوروبا: تظل أوروبا الزبون الأول للغاز الطبيعي الجزائري، وهو ما يضمن تدفق العوائد النقدية ويزيد من أهمية الجزائر كشريك استراتيجي.6
الولايات المتحدة الأمريكية: العلاقات مع واشنطن قائمة على "حوار استراتيجي" يركز على التعاون الأمني والجهود المشتركة ضد الإرهاب والشراكة الاقتصادية.6
إن سياسة الموازنة هذه هي محاولة لتأمين الاستقلال الذاتي في نظام عالمي غير مستقر، حيث تُستخدم الميزة الجغرافية والطاقوية كضمانة لاستمرار هذا التوازن، بهدف التحصين ضد الضغط الغربي عبر ضمان تنويع خياراتها العسكرية والاقتصادية.
ب. العبء الأمني الإقليمي (الساحل)
يشكل العمق الجغرافي للجزائر جنوباً، بجوار منطقة الساحل الإفريقي، عبئاً أمنياً لا يمكن تجاهله. فالحدود الطويلة والمترامية تواجه تحديات خطيرة ناجمة عن "نشاط المجموعات المسلحة" و"الإرهاب العابر للحدود وعبر الوطني" و"هشاشة المبنى الداخلي لدول الساحل الإفريقي".10 هذا الواقع يضع القضايا الأمنية الجزائرية في إشكالية كبيرة ويتطلب جهداً أمنياً ضخماً، مما يفرض "قيوداً جديدة ومتناقضة" على الأمن الوطني.10
ومع ذلك، فإن هذا العبء الأمني يتم استغلاله ببراغماتية لتعزيز الأصول الدبلوماسية. فمكافحة الإرهاب والجهود الأمنية المستمرة في الساحل تمنح الجزائر فرصة لتأكيد نفسها "كلاعب رئيسي" في المجتمع الدولي، وتبرر في الوقت نفسه التعاون العسكري المكثف مع روسيا (كمورد سلاح) ومع الغرب (كشريك في مكافحة الإرهاب).6 وهكذا يتحول التحدي الأمني الجنوبي إلى ورقة ضغط دولية، ويجعل الجزائر شريكاً لا غنى عنه للقوى الدولية في قضايا الأمن الإقليمي.
ج. السياسة الأفريقية والدور المحوري
تواصل الجزائر ترسيخ مكانتها كفاعل محوري في مسار الاندماج الإفريقي، مستندة إلى إرث تاريخي طويل من الالتزام بمبادئ الوحدة الإفريقية.4 وتعتمد استراتيجيتها على التضامن الفاعل والدعم المتبادل، مع السعي الواضح لتعزيز صعود القارة على الساحة الدولية.
وتلعب الجزائر دوراً دبلوماسياً رائداً في تسوية النزاعات واستعادة الأمن في القارة، ملتزمة بمبادئ عدم التدخل وحق الشعوب في تقرير مصيرها.4 هذا الدور الدبلوماسي، المدعوم ببنيتها التحتية الموجهة نحو الجنوب، يعزز مكانتها كقوة محورية متزنة، تحاول أن تربط بين أمنها الإقليمي وتنميتها الاقتصادية.
الجدول 2: مصفوفة الموازنة الاستراتيجية في السياسة الخارجية الجزائرية
V. التحديات الاقتصادية: الموقع كرافعة للتنمية أم لعنة الريع؟
إن التحدي الأعمق الذي يواجه الجزائر ليس موقعها الجغرافي بحد ذاته، بل الهيكل الاقتصادي الذي تم تطويره في ظل هذا الموقع.
أ. لعنة الموارد الطبيعية و"المرض الهولندي"
تعد الجزائر من أبرز الاقتصادات الريعية في القارة السمراء، حيث ما زالت تعتمد على قطاع المحروقات كمحرك رئيسي لتمويل نفقاتها على حساب القطاعات الأخرى.11 هذا الاعتماد الأحادي أدى إلى خلل بنيوي، يتمثل في ما يُعرف بـ "لعنة الثروات الطبيعية" أو "المرض الهولندي" (Dutch Disease).11
تنص نظرية "المرض الهولندي" على أن وفرة الموارد الطبيعية يمكن أن تكون عبئاً على الاقتصاد.12 فزيادة عائدات المحروقات تؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي للعملة المحلية (الدينار الجزائري)، مما يضعف القدرة التنافسية للقطاعات غير الريعية، مثل الصناعة والزراعة المحلية، التي كان من المفترض أن تستفيد من الموقع اللوجستي الممتاز. بالتالي، يتم استيراد السلع بأسعار منخفضة بدلاً من إنتاجها محلياً.11
إن التناقض الجوهري هنا يكمن في أن الموقع الجغرافي يمنح الجزائر ميزة لوجستية هائلة كجسر بين القارات 1، لكن العبء الاقتصادي للنموذج الريعي يخنق نمو القطاعات القابلة للتداول، مما يجعل الموقع قناة عبور للسلع الأجنبية (الأوروبية والصينية) بدلاً من أن يكون منصة لتصدير المنتجات الجزائرية. الميزة الاستراتيجية للموقع تبقى بالتالي كامنة ما لم يتم علاج هذا الخلل البنيوي.
ب. الفرص الاقتصادية ورافعة التنمية
على الرغم من القيود، يوفر الموقع الجغرافي فرصاً اقتصادية كبيرة إذا تم استغلالها بشكل فعال.
الطاقة كقوة تفاوضية وتمويل: يمنح الموقع وقربها من أوروبا وقدرتها على توفير إمدادات آمنة من الغاز 5 قوة تفاوضية وعوائد ضخمة يمكن توجيهها نحو برامج دعم الإنعاش الاقتصادي.12
الاستثمار اللوجستي كعلاج: تظهر الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية العابرة للقارات (ميناء الحمدانية، الطرق الأفريقية) 1 كاستراتيجية نشطة للتحول الاقتصادي. هذه المشاريع هي في الواقع استثمارات في قطاع الخدمات اللوجستية والنقل، وهي قطاعات غير ريعية. وهذا يمثل محاولة لـ "إعادة تنشيط الجهاز الإنتاجي" عبر قطاع بديل، مما يفتح مساراً تدريجياً لتنويع مصادر الدخل، رغم أن تمويلها لا يزال يعتمد حالياً على عائدات المحروقات. إن تحويل الجزائر إلى قلب لوجستي 1 يهدف إلى خلق قيمة مضافة مستدامة بعيداً عن "لعنة الموارد".
ج. التكلفة الاقتصادية للعبء الجغرافي والأمني
تضاف التكاليف الأمنية الباهظة إلى العبء الاقتصادي. إن إدارة الحدود الطويلة والمواجهة المستمرة لتحديات الساحل تتطلب نفقات ضخمة للأمن والدفاع.10 هذه الموارد، التي تُستخدم لضمان الاستقرار الإقليمي، كان يمكن توجيهها بالكامل نحو تنويع الاقتصاد ومعالجة "المرض الهولندي"، مما يقلل من الاستنزاف الاقتصادي غير المباشر الناتج عن المركزية الجيوبوليتيكية.
VI. الدور الثقافي والاجتماعي: الهوية بين التداخل والتعدد
يتجسد التداخل بين الثقافات الشرقية والغربية والمتوسطية في الهوية الجزائرية، مما يمثل تحدياً للتماسك الاجتماعي ولكنه في الوقت نفسه مصدر قوة وخصوصية.
أ. ثوابت الهوية الوطنية والتكامل الشعبي
تتميز الهوية الجزائرية بتكامل العناصر الثلاثة التي شكلتها عوامل تاريخية محلية وكونية: الدين الإسلامي، اللغة العربية، والأصل الأمازيغي.13 تاريخياً، قبلت الجزائر الإسلام ولغته (العربية) طواعية، ولم تعرف الهوية الجزائرية ما يسمى بـ "المشكلة الثقافية" منذ الفتح الإسلامي، حيث لم تناهض لغة القرآن البربرية (الأمازيغية).13
يشكل هذا التعدد الثقافي واللغوي (العربية والأمازيغية) نتاجاً لتعاقب الحضارات وامتزاجها.13 وتتحدد ملامح الهوية بوجهها العربي والإسلامي، مع اعتراف دستوري متنامٍ بمكونها الأمازيغي.
ب. إدارة التعددية الثقافية واللغوية (العبء الثقافي الداخلي)
مرت الهوية الوطنية بمراحل مختلفة بعد الاستقلال، تميزت في البداية بـ "الأحادية" في التعامل مع التعدد.13 ومع التحولات السياسية بعد عام 1988، برزت قضايا التعريب والأمازيغية.
وفي خطوة تاريخية لتعزيز التماسك الوطني، اعترفت السلطة رسمياً بالأمازيغية كلغة وطنية في عام 2002.13 إن إدارة الهوية الوطنية بهذا الشكل، من خلال تعزيز التماسك الداخلي والاعتراف بالتنوع، يعد جزءاً لا يتجزأ من إدارة الموقع الاستراتيجي. فالاستقرار الداخلي يمثل القوة المرنة (Soft Power) الضرورية لدعم السياسة الخارجية النشطة والمستقلة، والتي تحتاجها الدولة المحورية لإدارة التوترات الجيوسياسية الخارجية.
ج. تأثير الإرث الغربي (اللغة الفرنسية)
يظل التأثير اللغوي والثقافي للاستعمار الفرنسي عبئاً تاريخياً معقداً. على الرغم من الاعتراف المتزايد بالعربية والأمازيغية، تكمن المسألة الصعبة في اللغة الفرنسية، حيث يلاحظ وجود "صمت" من النظام والأحزاب حول مسألة فك الارتباط التدريجي مع هذه اللغة.13
إن استمرار هيمنة اللغة الفرنسية ليس مجرد تفضيل ثقافي، بل يمثل تبعية بنيوية متوارثة في النظم الإدارية والتعليمية وتكوين النخبة. وهذا يؤدي إلى تبعية معرفية وقانونية لنموذج غربي سابق، مما يعيق التوجه الكامل نحو العمق الإفريقي أو الشرق الجديد، ويمثل في جوهره استمراراً لـ "العبء التاريخي" للاستعمار في صورة هيمنة ثقافية ناعمة.
VII. الفرص المستقبلية والاستراتيجيات المقترحة (تحويل العبء إلى ميزة)
إن تحويل العبء التاريخي والجيوبوليتيكي إلى ميزة استراتيجية يتطلب تبني استراتيجية كلية تربط بين التنمية الاقتصادية والعمق الإقليمي واستقلالية القرار السياسي. يجب أن ترتكز هذه الاستراتيجية على ثلاثة محاور رئيسية:
أ. الاستراتيجية اللوجستية المتكاملة (Monetizing Geography)
يجب على الجزائر استغلال موقعها الجغرافي بشكل فعلي لخلق قيمة مضافة مستدامة، بعيداً عن تقلبات أسعار النفط.
إنجاز الأقطاب اللوجستية: يجب الإسراع في إنجاز ميناء الحمدانية، وتفعيله كبوابة للربط بين آسيا (عبر الشراكة الصينية) وأوروبا وإفريقيا.2
استكمال محور الشمال-الجنوب: يجب ربط المناطق الحرة الحدودية بالطريق العابر للصحراء 1، وتحويل الجزائر إلى "جسر لا غنى عنه" في التجارة الإفريقية.1 وهذا يتطلب الاستفادة القصوى من اتفاقية التجارة الحرة القارية (AfCFTA) لتعزيز الصادرات الجزائرية غير الهيدروكربونية.
ب. تعميق الاندماج الإفريقي والنفوذ الدبلوماسي
يجب أن يتحول العبء الأمني في الجنوب إلى استثمار في النفوذ الإقليمي.
القيادة الأمنية والتنموية: استغلال الدور التاريخي للجزائر كقوة محورية لتسوية النزاعات في إفريقيا.4 وتوجيه المساعدات التنموية نحو دول الساحل لتقليل الهشاشة الأمنية والاقتصادية، وبالتالي تخفيف العبء الأمني على الحدود الجزائرية، وتحويل الساحل من مصدر للتهديد إلى منطقة نفوذ اقتصادي وعسكري مبرر.10
مبادرات الطاقة والبنية التحتية: الضغط لتنفيذ مشاريع عملاقة مثل خط أنابيب الغاز العابر للصحراء 7، مما يعزز مكانة الجزائر كقناة للطاقة الإفريقية نحو العالم، ويضمن لها مكانة قيادية في ملفات التنمية القارية.
ج. التحرر من العبء الاقتصادي (مكافحة المرض الهولندي)
يعد التحرر من الريعية أمراً حتمياً لضمان استدامة الميزة الجغرافية الاستراتيجية.
خارطة طريق للتنويع: يجب تحويل التركيز الاقتصادي من الإنفاق الريعي 12 إلى الاستثمار في القطاعات القابلة للتنافس عالمياً، وخاصة قطاع الخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية التي يمكنها الاستفادة من الموقع الاستراتيجي.
إدارة العوائد واستغلال الرافعة الأوروبية: تطبيق آليات مؤسساتية صارمة لإدارة عائدات المحروقات لضمان عدم تأثيرها السلبي على سعر الصرف وتنافسية القطاعات الأخرى.11 ويجب استغلال الحاجة الأوروبية الملحة للغاز كرافعة لدفع الاستثمارات الغربية المباشرة في القطاعات غير الطاقوية.
د. الخلاصة التحليلية: استراتيجية الاستقلال الذاتي
تعتمد استراتيجية الجزائر الكلية لتحويل العبء إلى ميزة على فك الارتباط بين القطاع اللوجستي التنموي (الموقع الجغرافي) ومصدر التمويل الريعي (الغاز).
في المستقبل، يجب أن يمول الموقع اللوجستي الجديد (الحمدانية، والطرق الأفريقية) التنمية الاقتصادية المستدامة، مما يقلل من تأثير المرض الهولندي. حينئذ، يتحول الغاز من مصدر ريعي يغذي العبء الأمني، إلى مجرد أداة دبلوماسية بحتة، تستخدم لتأمين الاستثمارات والموازنة السياسية، دون أن تكون أساساً لبقاء الاقتصاد.
إن تحقيق هذا الفصل هو المفتاح لتجاوز القيود التاريخية المتمثلة في التبعية الاقتصادية، والوصول إلى مرحلة الاستقلال الذاتي في صنع القرار، حيث تستغل الجزائر موقعها الاستراتيجي لترسيخ دورها كقوة محورية فاعلة في النظام العالمي متعدد الأقطاب.
المصادر التي تم الاقتباس منها
الجزائر قلب التجارة الإفريقية وجسرها الحيوي نحو أوروبا - المستثمر, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://almostathmir.dz/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%82%D9%84%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D8%B3%D8%B1%D9%87%D8%A7/
حلقة وصل حيوية.. موانئ الجزائر تدعم التجارة بين إفريقيا وأوروبا - الأيام نيوز, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://elayem.news/142996.html
الطريق العابر للصحراء.. شريان حيوي يعزز عمق الجزائر الإفريقي - YouTube, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://www.youtube.com/watch?v=oUu5hhc-i80
وأج: الجزائر في قلب الاندماج الإفريقي.. التزام تاريخي راسخ برؤية مستقبلية, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://elmasdareliktissadi.dz/?p=27536
الجزائر مورد آمن وموثوق للطاقة لأوروبا - Ministry of Foreign Affairs, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://embbrussels.mfa.gov.dz/ar/news-and-press-releases/algeria-reliable-energy-supplier-for-europe
الجزائر تعزز علاقاتها شرقاً.. هل غيّرت سياستها الخارجية وابتعدت عن ..., تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://www.trtarabi.com/article/11303073
غاز أفريقيا سيعبر لأوروبا والسر لدى الجزائر... خط أنابيب الغاز العابر للصحراء يقترب!, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://www.youtube.com/watch?v=zch-cZ4QaOU
السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا: التطورات والمحددات - المركز ..., تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://democraticac.de/?p=43847
"العلاقات الجزائريّة الروسيّة: هل تتخطّى التعاون العسكريّ؟" - Middle East Council on Global Affairs, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://mecouncil.org/ar/publication/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D8%B9%D8%B3%D9%83/
الاستراتيجية الأمنية الجزائرية في حل نزاعات منطقة الساحل الإفريقي - ASJP, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://asjp.cerist.dz/en/article/146145
حقیقة المرض الهولندي في الاقتصادیات الریعیة, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://jiamcs.centre-univ-mila.dz/index.php/fber/article/view/1634/1222
المرض الهولندي ... كيف يمكن أن تكون وفرة الموارد الطبيعية عبئاً على اقتصاد الجزائر؟, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://www.abeqtisad.com/reports/dutch-disease/
التعدد الثقافي واللغوي في الجزائر إدارة - ASJP, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/185/8/1/92331
الفصل الأول إشكالية الهوية في الفكر الجزائري ا, تم الوصول بتاريخ نوفمبر 4, 2025، https://dspace.univ-ouargla.dz/jspui/bitstream/123456789/21428/1/belkacem-rofida.pdf
0 تعليقات